نحن هنا نشهد على المكانة الحاسمة التي تحتلها الكلمة في تاريخ الشعوب، والأستاذ طلال سلمان أحد أبرز فرسان الكلمة في القرن العشرين، وهو لم يملك سلاحاً غيرها، ولم يعرف مهنة غيرها، وصار بفعلها رمزاً من رموز العرب والمسلمين والأحرار في العالم ورائداً من رواد النهضة والمقاومة والوحدة. والكلمة هنا هي مفردة اللغة، واللغة التي نتحدّث عنها هي اللغة العربية، لغة القرآن، التي قال عنها المؤرخ إرنست رينان إنها ولدت كاملة حيث لا طفولة ولا شيخوخة، لأنها لغة القرآن.
– نحتفل باللغة سلاحاً أول في حروب الحق والحرية والإنسان، لأنها أعظم اعتراف بمكانة العقل. وقد كانت كل حروب الأنبياء والرسل والأئمة حروب كلمات، لأن الله كلمة والحق كلمة. أليست ثورة الإمام الحسين هي هذه الكلمة الخالدة “هيهات منا الذلة” التي لا زالت تزلزل عبر التاريخ عروش الظالمين؟ مَن في التاريخ يذكر اسم الملك الذي حكم أيام سقراط، ومَن من الناس لا يذكر سقراط؟ خلافاً للقول السائد بأن التاريخ للمنتصرين، وربما للقتلة أيضاً، فإن التاريخ لا يخلد إلا الكلمة ولا يحفظ سواها، حتى عندما يريد السلاطين والحكام أن يتركوا شيئاً للتاريخ يحاولون إغواءه بالكلمات، ليقال قال فلان، لكن التاريخ يحمل ميزاناً لاختيار الكلمات الخالدة، هو ميزان الحق والصدق، لأن الكلمة الصادقة النابضة بالحق هي الأقرب لله بقربها للناس. “فأما الزبد فيذهب جفاء وما ينفع الناس فيمكث في الأرض”. الزبد هنا هو لغو الكلام، وما ينفع الناس هو الكلمات الخالدة. وهذا هو المكوث في الأرض.
– ليست القضية هنا إذن في مهارات لعب الكلام كما يقول لنا تاريخ الذي نالوا شرف مكانة صناع الرأي في سيرة شعوبهم، بل في درجة النبض الصادق والحضور الحارق الذي تختزنه الكلمات، فتصبح نشيداً وطنياً تتناقله الألسن. قال طلال سلمان عام 1982 “بيروت تحترق ولا ترفع الرايات البيضاء”، فبقيت بيروت تحترق طيلة مئة يوم وهي تردّد قول طلال سلمان، “لن نرفع الرايات البيضاء”. وقال طلال سلمان عام 2000 “الجنوب يحرّر الوطن”، وحتى يومنا هذا لا يزال الجنوب يحرّر الوطن، وبين دور النار في صهر الكلمات الفولاذية، وسلاسة الحرير لانسياب موسيقاها على الألسن، تخرج لغة العظام من أمثال الأستاذ طلال، فتبقى النار تذيب الفولاذ وتسكبه في قوالب من حرير، فلا يحترق الحرير ولا يخسر الفولاذ من صلابته بعدوى جيرته للحرير، ولا تنطفئ النار.
– المعيار هنا هو في درجة التماهي بين المبنى والمعنى، وما بينهما وبين حق بائن، في مواجهة باطل بائن، لأنه كما للقضايا لغة فإن للفتنة لغة. ولغة الفتنة هي تلك التي تكمن في منتصف الطريق بين الحق والباطل، وقد هجرها طلال سلمان، واختار للغته درب القضايا الواضحة، فكانت فلسطين البوصلة والقضية والنبض ورمزها حاضر على الصفحة الأخيرة لصحيفة السفير في حنظلة ناجي العلي، وفي روايات الحب التي ينقلها طلال سلمان على لسان نسمة الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب، وفي تاريخ البشريّة ليس من قضية حق مطلق مثل فلسطين، ولا شرّ مطلق مثل كيان الاحتلال والاغتصاب والاستيطان والعنصرية. والمقاومة في فلسطين هي نار الدفاع عن هذا الحق التي أمدّت لغة الأستاذ طلال بلهيب حروفها.
– على ضفة موازية للنار كان نور الكلمات مصدره انحياز لا هوادة فيه إلى جانب الفقراء والمستضعفين، مصدر نور دائم في كل الدعوات السماوية والثورات الأرضية، والحق المتحرّك عبر التاريخ صانعاً للحضارة والشرائع. وهكذا تلاقت القدس التي أسماها زهرة المدائن مع النوارة في ضاحية الفقراء والثوار والمقاومين، عرين السيد حسن نصرالله، واسم النوارة أطلقه طلال سلمان على الضاحية، ليولد بهاء الحضارة واحتفالها بلغة أميرة تختال كما المدينة التي حمّلها طلال سلمان هذا اللقب، بيروت.
– ليست مجاملة ولا مصادفة التفاتة الجمهورية الإسلامية نحو طلال سلمان، بل هي تجسيد لمكانة هاتين، فلسطين وقضية المستضعفين في نبض الثورة وروحها، وروحها هو روح الله الموسوي الخميني، وقد اكتشف طلال سلمان سرّ هذا التلاقي مبكراً، وأشهر كلماته سيوفاً تدافع عن الثورة قبل الانتصار، وتعانق نصرها، ثم تحتفل بافتتاح سفارة فلسطين فوق تراب الجمهورية، ويشاركها إحياء أيام القدس وخيار المقاومة وحبّ سيدها. ولم تلتبس على طلال سلمان ألعاب الكلام، فهو رأى الذين يطعنون بخناجرهم جمال عبد الناصر ويؤدون فروض الطاعة إجلالاً لشاه إيران ربيب “اسرائيل”. ويلبسون ثوب الإسلام زوراً لقتال العروبة التي جسّدها عبد الناصر، كيف سارعوا لحمل درع العروبة زوراً مرة أخرى بوجه الثورة الإسلامية في إيران، ورأى فلسطين في المرتين بوصلة لا تحيد تجمع في وجدانه عبد الناصر والثورة الإسلامية في إيران، وتعطي المعنى الحقيقي للعروبة والإسلام.
– لم يرتبك نص العروبة عند طلال سلمان في إشكالية الإسلام والعروبة التي افتعلها الذين أرادوا التهرّب من استحقاق فلسطين. ولم تضطرب عبارات طلال سلمان عند مفترقات وهميّة ابتكرها اليسار العلماني المتأمرك للتملّص من جوهر حروب الحرية والتحرر وهو مواجهة مشروع الهيمنة، فكانت كلماته حداً فاصلاً بين عروبة التتبيع والتطبيع والقطيع، وعروبة الثوار والأحرار والاستقلال والمقاومة، والحد الفاصل اسمه فلسطين. وكانت لغته مصدر إلهام لمفهوم متجدد ليسار الخنادق لا الفنادق، حيث كلمة السر هي ثورة الفقراء، سواء حمل لواءها أرنستو تشي غيفارا أو أبو ذر الغفاري.
– جسّد طلال سلمان في حياته التي هي سيرته كصاحب نص، ما سبق وتشرّفت بسماعه من الإمام الخميني، قُدّست روحه، عندما شرّفني بحوار صحافي عام 1980، رداً على سؤالي عن مفهومه لجبهة المستضعفين، فقال إن قضية الحرية في العالم واحدة لا تتجزأ كما هي قضية العبوديّة واحدة لا تتجزأ. وإن الذي يكسر قيداً من قيود عبوديته هو، إنما يفتح نافذة من نوافذ حريتي أنا.
*كلمة في حفل تأبين الأستاذ طلال سلمان بدعوة من وزارة الثقافة والإرشاد في الجمهورية الإسلامية في إيران 3/9/2023
جريدة البناء