قد لا يقرأ طلاب أقسام الإعلام وأساتذتهم في الجامعات اللبنانية ما كتبه طلال سلمان في آخر مؤلفاته “كتابة على جدار الصحافة”، في سلسلة كتب “السفير” الصادرة عن “دار الفارابي”. يظن هؤلاء أن الصحافة تبدأ معهم ومن عندهم، أو قبلها بسنوات قليلة لا اكثر، وأن الثورة التكنولوجية في هذا القطاع بدأت منذ عهود سحيقة، بينما هم يدركون نظرياً في دروسهم أن أول مطبوعة لبنانية تحمل تاريخ العام 1858، أي أنها صدرت قبل أكثر من 155 عاماً وتحت ظلال الدولة العثمانية وسلطانها وبابه العالي. لا يؤرخ طلال سلمان للصحافة والمطبوعات أسماء ومسميات واتجاهات، بل يدخل موضوع هذه المهنة من الذات. إذاً يجرد سلمان بعد هذه السنوات المديدة في دار صاحبة الجلالة ليكتب بدايات دخوله عالمها، بدءاً من كونه مجرد مخبر يتسقط الأخبار من مصادر أجهزة وزارة الداخلية وأقسام الشرطة وما شابه من مؤسسات، ثم يحررها لتنشر في اليوم التالي ومن دون اسم صاحبها الذي ركض على قدميه أكثر ساعات صباح ذلك النهار ليجمعها من مصادرها.
كانت هذه البداية، لكن ككل بداية تظل مسبوقة ببدايات. الفتى الذي تنقل مع والده بين مخافر لبنان وقراه ومدارسه لم يعرف الاستقرار وإن تعرف الى الكثير من أهل القرى وسكان أحياء المدن الفقيرة. خرج من شمسطار وتجول بحكم عمل الوالد في الأمن الداخلي هنا وهناك وعرف ناسها وعايشهم. لم يدخل الى الصحافة احد من جيل طلال سلمان، ولا الذي سبقه، أو حتى من لحقه بعقود حاملا ً في يمناه شهادات كليات ومعاهد الإعلام. كان المطهر الأول دوماً هو التصحيح. والتصحيح كان بمثابة ممر اجباري للدخول الى هذا العالم. من خلال التصحيح كان يتعرف “الفتى” الى اساليب كُتاب الصحيفة وطرائق عملهم على المادة سواء أكانت مقالاً أو تحليلاً أو تحقيقاً. لكن عملية التصحيح والمطبعة والمصحح آنذاك كانت أشبه ما تكون اليوم بكاراج السيارات للذين لا يعرفون. تجميع الأحرف المفردة من الصندوق أو اعتماد السبائك الرصاصية في آلة الأنترتيب “الحديثة” يومها للأسطر، ثم وضعها في صندوق الملزمة الحديدية المستطيل وشده ببراغي من حواشيه كي تستقيم الصفحة على صورتها. وأخيراً طبعها بعد تغطيتها بالحبر الأسود عبر فرشاة كالتي يستعملها الدهانون… كل هذه العملية كانت تجعل من “الفتى” وكل فتى مضمخاً بالحبر يلطخ الأيدي وينقِش الثياب. التصحيح هو المقدمة واللازمة، بعدها يستطيع “الفتى” أن يوازن بين الجلوس في المكتب والنزول الى المطبعة… من هذا المقدمات الى الكتابة في بريد القراء وبعدها عالم الصحافة الواسع. وللمناسبة، كثير من الصحافيين كانت مادة من نوع رسائل القراء طريقهم الى العمل… ثم الى التحرير في قضايا الناس وصخب الحياة السياسية فسكرتارية وادارة التحرير.
لا يكتب طلال سلمان عن حياته المستمرة في المهنة. حياة طويلة عريضة يتابعها في مختلف صفحات “صوت الذين لا صوت لهم”: “السفير”. اذ أنه اختار مقطعاً من حياته خصصه للحديث وهو مقطع غني وقلَّ العثور على مثيله في كتاب من الكتب التي تناولت الصحافة اللبنانية في سيرتها ومساراتها. يبدأ رحلته منذ آواخر الخمسينيات وينتهي بها في العام 1964. وبينهما ملعب واسع من التجارب والمحاولات والدأب والإصرار على اكتساب مقومات اللغة وأسرار العلاقات كي يصبح صحافياً او “استاذا”. فقط من باب التذكير نعرف من خلال النصوص التي كتبها وأودعها صفحات “السفير” بين الشهر الثاني من عام 2011 والشهر الثاني عشر من العام 2012، أن الطريق طريقه، كان مليئا بما هو أكثر من الشوك، السجن، وسجن الرمل تحديداً. وهو أشهر من عَلم في تلك المرحلة. حيث الزنازين والقووايش تتداخل. هذا هو وجه واحد من العُملة. لكن الوجه الآخر يجعل من تلك السنوات سنوات الحلم والأمل. لقد شهدت هذه السنوات السبع أو الثماني التي يتناولها صعود حلم الوحدة وانهيارها. كان معبراً أن يدخل السجن بتهم “كبيرة” جراء مساعدته أو التزامه الثورة الجزائرية. وتحقيقاً لدعمه لها يحتفظ بمنشوراتها وكتبها وبياناتها ووثائقها في منزله في حي السريان في المصيطبة. ومع اقتحامه تتصيده الأجهزة الأمنية بعد أن صادرت المحتويات دليل إثبات لا يقبل الشك. يدخل السجن مطمئناً ليس الى براءته فقط، بل لأن “ظهره محمي” بدولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا. لكنه في السجن يعرف انفراط العقد، وبالتالي انكسار الحلم. الحلم نفسه الذي دفعه برفقة أسرة تحرير “الحوادث” الى الذهاب الى دمشق للسلام على الرئيس جمال عبد الناصر لدى حضوره الى الإقليم الشمالي لدولة الوحدة. يرسم لنا طلال سلمان بريشته العذبة، تفاصيل مشهد الجماهير المحتشدة في ساحات دمشق، ولبنان في قلبها تحديداً أمام مرأى القائد بعد تلك التسوية التي قضت ببقاء دولة الوحدة في جديدة يابوس من دون أن تبلغ المصنع. وجاءت التسوية بفؤاد شهاب رئيساً للجمهورية ومعه الخيمة بين الحدودين للقاء عبد الناصر. يسلم سلمان مع أركان “الحوادث” على ناصر مرة، ثم يستدير ويلتحق بالطابور ثانية، ليحصل على التحية مرة ثانية. الصورة لا تزال في قاعة ابراهيم عامر في مبنى الجريدة، صورة بالأبيض والأسود تحكي قصة حلم ذلك الزمن الجميل.
الحياة كما كانت عليه في تلك السنوات هي ما يقدمه طلال سلمان عندما يكتب على جدار الصحافة. صحافة لم يكن لوالده الدركي ثم الرقيب أول ولا لشمسطار علاقة بها من قريب أو بعيد. إذ ان غياب الدراسة والعلاقة آنذاك، إن كان يعني من أمر فإنه يعني أن الصحافة بعيدة عن متناوله، لا سيما أنها أشبه ما تكون بالمصلحة العائلية الصغيرة. يمكن استعادة أسماء الكثير من المؤسسات والأجيال العائلية في سياق تاريخها وهذا ما هو مستمر بشكل أو آخر. ولم يكن لآل سلمان أي علاقة بهذا العالم… مع ذلك كان على “الفتى” أن يشق دربه وسط الوعر والمصادفات في عمل الأب، ودعاء الأم الحنون وحدب الأخت والأخوة وصحن الفول وركوب الترام حيناً وقطع مسافات الطرق الطويلة مشياً على الأقدام بين ساحل المتن والشياح تالياً والبرج حيث تتمركز الصحف لتوفير قروش غير موجودة أصلاً.
اذاً طلال سلمان لا يدخل المعترك مستنداً الى أرث عائلي أو سياسي، بل عبر كم لا يحصى من المغالبات والخطوات والعلاقات التي نجحت أخيرا في تكوينه على النحو الذي نعرفه. في رحلته في غضون تلك السنوات يتتلمذ ويزامل “الاستاذ الكبير” سعيد فريحة وسليم اللوزي و”البيك” منح الصلح وشفيق الحوت ورياض طه ونبيل ورفيق خوري وغادة السمان وعلي جمال الدين و… ويظل الأكثر تأثيراً شخص من خارج سرب الأسماء التي التقاها في “الأنوار” و”الحوادث” و”الكفاح العربي” هو عامل المطبعة النقابي فؤاد نصر الدين، رفيق السجن، الذي نشأ كما عمال المطابع في حينه. يبدأون في مجال عمل بسيط يقيم الأود، ثم اذبهم يصبحون مثقفين وصحافيين وقادة نقابيين، يعاركون السلطات دفاعاً عن حقوقهم وحقوق الناس البسطاء أمثالهم. يدخلون السجون ويخرجون منها وهم أكثر صلابة.
في السياسة عالم زاخر بأسرار ومعارف المهنة يتلقاها من أولئك الذين دخلت أسماء الكثيرين منهم في كتب التاريخ. نتحدث عن مرحلة والمنطقة في حينه تعيش سنوات الغليان على امتدادها بدءا من الجزائر مروراً بمصر، وانتهاء في كل ديار العرب… ولبنان كان في صميم المرجل أكثر من سواه نظراً لموقعه وحساسياته وتركيبته المعروفة والمستمرة بحرز حريز.
أسماء تتلاحق في عالمي السياسة والصحافة، والفتى يشق طريقه بصبر. بنجاح حينا وبتعثر أحياناً، كما أولئك الذين يدخلون سباقاً من هذا النوع من دون أن يكونوا من سلالات أصحاب وعائلات العالمين. رغم ذلك كانت هناك الكثير من المفارقات التي وضعت الفتى على الطريق، لعل الأبرز فيها هو وجود الوالد مسؤولاً عن مخفر مستشفى الكرنتينا. حينها أقام في “النَزل” سليم اللوزي على عادة الصحافيين الكبار الذين كان يتم نقلهم الى غرفة في المستشفى لدى احتجازهم بدلا من زنازين السجون.
كتابة على جدار الصحافة… طلال سلمان يخبرنا عبر أكثر من مئتين وخمسين صفحة من السرد والمتعة اللغوية كيف دق بقبضته وقلمه على خزان المهنة الذي لم يتعود أن يستقبل الكثيرين برحابة صدر ومساعدة واحتضان… كان “الفتى” يتأهل مستعداً وجاهزا للخوض في المعمعة. وكان عليه دوما بناء ذاته في بحر من ألق المهنة وخيبات أحلام السياسة والأوضاع.
زهير هواري
السفير، 1112013