في الشهور الأربعة الأخيرة من العام 2016، كنا على موعد أسبوعي مع رئيس تحرير جريدة “السفير” طلال سلمان في إطار التحضير لفيلم وثائقي. ينسحب من مكتبه في الطابق السادس ويوافينا إلى “غرفة الاعترافات” كما أسماها، ليحكي قصة شاب لبناني فقير استطاع تأسيس واحدة من أهم الصحف في الوطن العربي… وقرّر أن يقفلها بعد 43 عاماً. ندر أن تمر جلسة من جلسات “إعترافات” طلال سلمان، إلا وكان يأتي فيها على ذكر سوريا ورئيسها الراحل حافظ الأسد، الذي التقاه سلمان على مدى سنوات حكمه التي قاربت الثلاثين نحو 10 مرات، وكانت لقاءات تمتد لساعات طويلة أتاحت له الاطلاع عن قرب على شخصية هذا الرجل “الاستثنائية” كما يصفها.
لم تكن سوريا من بين الدول المفتوحة على الصحافة، في نهاية الستينيات، لذلك لم يعرفها طلال سلمان كثيراً خلال عمله مراسلاً عربياً في مجلة “الصياد”، يذكر فقط أنه زارها في محطة قصيرة وأجرى فيها مقابلتين: الأولى، مع اللواء عبدرالرحمن خليفاوي، والثانية، مع الأمين العام للحزب الشيوعي السوري خالد بكداش. عن خليفاوي يقول سلمان إنه كان شخصاً محترماً. قدِمَ أهله إلى سوريا مع عبد القادر الجزائري، وقد كلّفه الرئيس حافظ الأسد لاحقاً بمناصب وزارية وبرئاسة الحكومة. الثانية، مع خالد بكداش. يتذكر نقاشاً حاداً دار بينهما، حين قال له بكداش إن الحزب الشيوعي أرسل في طلب “خبراء بلغار” لسؤالهم عن القومية العربية وهل هي موجودة حقاً؟!. احتدّ سلمان وسأله: “تنتظر من رفاق من بلغاريا تحديد هويتك؟”.
هاتان المقابلتان لم ترويا عطش الصحافي إلى معرفة الكثير عن البلد الذي كانت عناوين الصحف لا تخبر عنه إلا أنه يشهد انقلابات متلاحقة، قبل أن يقوم وزير الدفاع حافظ الأسد بـ”الحركة التصحيحية”، في 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1970، ويمسك بزمام السلطة في سوريا. حدث هذا بعد أقلّ من شهرين على رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، ليكون الرئيس الثالث الذي يطلّ على الساحة العربية بعد صدام حسين ومعمّر القذافي.
اقتحام “السفير”
بقي طلال سلمان بعيداً عن المشهد السوري حتى ما بعد تأسيس “السفير” في العام 1974. لكن هذه الصحيفة في بدايات تأسيسها لم تكن في نظر النظام في دمشق صديقة لسوريا، بفعل انحيازها إلى المقاومة الفلسطينية، خصوصاً بعد الدخول السوري إلى لبنان في العام 1976.
يتذكر سلمان أن “السفير” خرجت مرة بعنوان “صيدا تسهر على حريق الدبابات السورية”، في حين كان السوريون يرون في ما حصل في صيدا “كميناً” فلسطينياً تسبّب لهم بخسائر كبيرة. حتى أن المناضل الفلسطيني الراحل شفيق الحوت قال للصحافي البريطاني باتريك سيل (في كتابه الأسد: الصراع على الشرق الأوسط) إن “العداء الشخصي المرير بين حافظ الأسد وياسر عرفات يعود تاريخه إلى كمين صيدا” (1976).
بعد نحو أربعة أشهر من الدخول السوري إلى لبنان في إطار قوات الردع العربية، اقتحمت قوة عسكرية سورية مكاتب “السفير” في الحمرا ليلاً. كانت الجريدة لا تزال في مقرّها القديم (بمحاذاة المقر الحالي)، وكان سلمان قد غادرها قرابة الساعة 11 ليلاً، وما كاد يصل إلى بيته القريب، حتى رنّ الهاتف وأخبره المتصل أن قوة عسكرية سورية دخلت إلى مكاتب الجريدة وأوقفت كلّ الشباب. حضّرت له زوجته حقيبة صغيرة وطلبت منه الذهاب إلى فندق البريستول لكي يكون توقيفه، في حال حصل، من مكان معروف، ولكي لا يسبب الأمر ذعراً لأطفاله الأربعة في البيت.
يضحك طلال سلمان عندما يتذكر محاولته اتخاذ موقف مما حصل: اتصلت بأصدقائي في تلفزيون لبنان وطلبت منهم بث إعلان يقول “غدًا وكل يوم “السفير” / “السفير” صوت الذين لا صوت لهم”. بعد بثه أول مرة، تلقى سلمان اتصالاً يقول محدّثه باللهجة السورية: “شو هاد صوت اللي ما إلو صوت؟”، ففهم عندها أن الأمور “خربت على الآخر”.
“الصلحة” في الشام
بعد هذه الحادثة، توقفت “السفير” عن الصدور قرابة الـ19 يوماً وبدأت الرقابة على الصحف، فيما تلقى سلمان دعوة رسمية لزيارة دمشق. نزل رئيس تحرير “السفير” في نادي الضباط، وفي اليوم التالي، التقى باللواء ناجي جميل في مبنى قيادة القوات الجوية، “كان جميل قد أعدّ مشروع اتفاق، طرفه الأول الجمهورية العربية السورية وطرفه الثاني طلال ابراهيم سلمان. بدا لي الأمر كاريكاتورياً. المهم أننا بقينا في دمشق نحو أربعة أيام، طالبنا خلالها بالإفراج عمن بقي معتقلاً من الشباب وكانا شخصين: توفيق صرداوي ومحمد مشموشي، لكنهم لم يسلموني إياهما، بل سلموهما إلى نقيب المحرّرين اللبنانيين آنذاك ملحم كرم”.
هذه البداية السيئة للعلاقة بين سوريا وبين “السفير”، لم تطل كثيراً لأن “الأمر الواقع كان قد حصل في لبنان الغارق في حربه التي قسمت الجيش وقسمت المناطق، صارت سوريا موجودة بقوة وصار وجودها حاجة. ومن الأمور التي أوحت بأن وجودها قد يكون مريحاً انتخاب الياس سركيس رئيساً للجمهورية، وهو رجل مميّز وكان يمكنه أن يقدّم الكثير لو وصل إلى الرئاسة في ظروف مختلفة، وزيارة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات إلى الشام، كما أن السوريين كانوا لا يزالون منضبطين كجيش في حينه”.
ومع مرور الوقت وتطوّر الأحداث في لبنان، صارت “السفير” تُحسَب على السوريين “لقد صار السوريون أصحاب القرار، كل اللبنانيين كانوا يعرفون أن القرار بات في الشام وأي صحافي يريد أن يعرف ماذا يجري عليه أن يكون قريباً من مصدر القرار، نحن نحكي هنا عن المكان الذي بات يعيّن أو يوافق على تعيين رؤساء جمهورية لبنان. كما أن الحركة الوطنية كلها كانت قد انتقلت إلى الشام، مرّ وقت كنا إذا رغبنا في لقاء أحدهم علينا أن نقصده إلى الشام. في المقابل، لا يجب أن ننسى أن عدداً من السياسيين اللبنانيين كانوا قد لجأوا إلى خيارات لا تتيح مجالاً للصلح، بشير الجميّل ذهب إلى اسرائيل، أمين الجميّل تسبّب بحربين، أي أن رأينا في الطبقة السياسية اللبنانية لم يكن إيجابياً”.
بناء العلاقة
في هذه المرحلة، وتحديداً ابتداء من العام 1981، كانت عائلة طلال سلمان قد انتقلت مضطرة إلى باريس. فبعد محاولتين لتفجير منزل سلمان بمن فيه، أثناء غيابه في مهمة صحافية، وبعد محاولة تفجير ثالثة، ارتأى محمد المشنوق، الذي كان آنذاك المدير العام في “السفير”، ترحيل العائلة إلى فرنسا في ظلّ غياب سلمان عنها. هكذا صارت زيارة سلمان إلى الشام دورية، لكي يسافر عبرها إلى فرنسا، ما أتاح له التعرّف عن قرب على القيادات السورية وبناء علاقات معهم، من عبد الحليم خدام (كان وزيراً للخارجية في البداية)، إلى وزير الخارجية التالي فاروق الشرع، مروراً بالمسؤولين في الخارجية ومديري مكاتبهم، وعدد من العاملين في القصر الجمهوري. لكن اللقاء الأول مع الرئيس حافظ الاسد لم يتحقق إلا في العام 1984، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها طلال سلمان في بيروت، وتلقيه دعوة لزيارة الشام فور تعافيه من الإصابة.
قبل أن يتعرّف طلال سلمان إلى الرئيس السوري حافظ الأسد كان قد سمع الكثير عنه وعن ذكائه. قيل له إن أول ما فعله عندما تسلّم قيادة سلاح الطيران كان إنشاء جهاز مخابرات فعّال، وعندما تسلّم وزارة الدفاع أسّس أكثر من كلية حربية وأدخل أعداداً كبيرة إليها لا سيما من الفقراء وهكذا استطاع تخريج مجموعة كبيرة من الضباط، وأنشأ وحدات خاصة وأعاد هيكلة للجيش ممسكاً بمفاصله الأساسية، لذلك نجح في تنفيذ انقلابه بهدوء شديد جداً. وعندما نجح في الانقلاب، اختار شخصاً اسمه أحمد الخطيب، وهو عضو في حزب البعث، ليكون رئيساً للدولة “أخبرني صائب نحاس أنهم عندما أرسلوا في طلبه لإخباره بالأمر بحثوا طويلاً عن موقع بيته، سألوا أكثر من شخص إلى أن وصلوا إلى بيت يقع في الطبقة الأرضية. طرقوا بابه وقالوا له مبروك، لقد عيّنت في منصب مهم. توقع كل شيء إلا أن يكون رئيساً للدولة”.
لم يطل بقاء الخطيب في الرئاسة، بضعة أشهر فقط أتاحت للرئيس الأسد التعرّف إلى الدولة من الداخل والإمساك بكل المفاصل الإدارية: “كان عبقرياً بمعنى أنه فهم الأمور على مهل. أعتقد أنه استفاد من تجاربه ومن تجارب الآخرين بالجيش، ومن الفترة التي ذهب فيها إلى القاهرة في حين كان يجري التبادل في أيام الوحدة. كانت هناك مجموعة من الضباط اشتبهوا أنهم يخططون لمشاريع انقلاب فأرسلوها إلى القاهرة، وكان هو واحداً منهم، فتعرّف إلى تركيبة الجيش المصري، وفهم آلية التعامل مع روسيا في موضوع الأسلحة من موقعه العسكري وليس من موقع القائد، أقصد القول إنه كان يتعلّم دائما”.
(*) في الجزء الثاني، “طلال سلمان يفتح صفحاته العربية: نقار الخشب.. حافظ الأسد”.
تنشر بالتزامن مع موقع 180