إستشعر الشاعر والقائد العسكري أبو فراس الحمداني دنو الرحيل، فقال مخاطباً ابنته أن تُردّد في يوم مماته: “قولي إذا ناديتني وعييت عن رد الجواب/ زين الشباب أبو فراس لم يُمتع بالشباب”.
فاضت وسائل التواصل برسائل الحب لناشر “السفير” طلال سلمان. في عقلي إسمه “الناشر”. هكذا نتكلم عنه. إسمه أحياناً “الأستاذ طلال”. لكن اللقب أكثر تداولاً في أروقة الجريدة هو “الناشر”. الناشر هو الضمير الأعلى. إنسان نُحاكيه ونناقشه في إجتماعات التحرير ولا مانع لديه أن ينتقل النقاش إلى صفحات جريدته. تعلمت في “السفير” كيف أكتب خبراً وتحقيقاً صحفياً. كيف أحاول تغيير العالم بمقالة واحدة. هو الرجل الذي يشبه أبي. يشبه كل الآباء. حب وقسوة. حب العطاء وقسوة التعابير والتوجيهات، بل قلْ هي هيبة “الأستاذ”. لن أكتب بورتريه عن الأستاذ طلال سلمان، فأنا أخجل أن أصل إلى هذا المستوى من الكتابة في حضرة هكذا قامة.
في جريدة طلال سلمان تعلمت أن أكتب ما يحلو لقلمي أن يكتب، فكانت بداية التجربة. لذا، أنا مدينة لهذه الجريدة بكل ما أنا عليه. ثقتي بنفسي وبطريقة تقديم أفكاري. شعوري بأنني قوية وأن صوتي يصعب اسكاته. أنا يا سادة، رسمت في “السفير” صفحة جريدة عليها أسماء كل الحكام العرب، ومعهم بطاقات نعي لعروشهم..
لا أستطيع أن أنعي طلال سلمان. أكتفي بتقديم ما يقترب من سيرة صحافية خاضت أولى تجاربها في تلك المؤسسة اللبنانية والعربية العريقة. أذاب “الناشر” فرديته في الـ”نحن”. طلال سلمان صنع الجريدة التي خطّ فيها ناجي العلي ملحمته الأسطورية. ملحمة المقاومة. ملحمة حنظلة الرابض عند حجارة فلسطين وحدودها وزيتونها وبرتقال حيفا. هذه جريدتنا التي احتضنتنا يوم نبذتنا أحزابنا المغلقة على نفسها. هذه جريدة تعرّفت فيها على أقلام شبابية مثل سحر مندور وزينب حاوي بكل تناقضاتهما. هذه جريدة جوزيف سماحة ونصري الصايغ وصقر أبو فخر وعباس بيضون وياسر نعمة. من يستطيع جمع هذه الأسماء والقامات إلا صانع أسطورة إسمها جريدة “السفير”. لعلها أنبل وأعرق تجربة صحفية عربية في العقود الأخيرة. هذا طلال سلمان. إحصوا من مرّوا في مؤسسته طوال 43 عاماً. كلّ من تعلّم شيئاً عن الإنضباط المهني وتصارع بالعقل مع زملائه في الجسم التحريري، ثم أطلّ على المشهد العام بلغة راقية ومهنية. هو حتماً تعلم ذلك في “السفير”. كنا نتقاتل بالأفكار على صفحات الجريدة عند طلال سلمان. ليس فقط نحن، صيصان آخر رعيل مرّ في تلك المدرسة. بل إن ميشيل كيلو ومعه حسين العودات كانا يصارعان الدولة السورية من على صفحات “السفير” أيضاً.. أنا البطة السوداء القومية المقاتلة ضد الغلط وضعني طلال سلمان في مرتبة كنت أحلم بها يوم كان يتصل بي وأنا في دمشق، ومن بعدها يعطيني بطاقة إنتساب إلى مؤسسة مرّ فيها المئات من الصحافيين من شتى أنحاء العالم العربي. إبنة العشرين عاماً تحدّت الإضطهاد الحزبي من دون أن تغادر العقائدية التي تُحصنها ضد الكثير من أمراض مجتمعها.
نكتب ولن نمل. نحن اليوم نكتب عن شخص أصبح كتاباً ومرجعاً. هذا الرجل الصحفي الآتي من شمسطار لكي يُغيّر العالم. هذا المؤمن بعقله وقلمه في محضر الملوك والأمراء والرؤساء. طلال سلمان بطح السلاطين بحبر قلمه. المعلم والمربي العطوف الحكيم، البارد المتفجر دفئاً. هذا طلال سلمان حتماً إلى الخلود. ألقوا بأقلامكم كل التحايا للمعلم الناشر.
نشرت في موقع 180 بوست