من هذه الزاوية، وحتى يكون الكاتب منصفاً بحق طلال سلمان لا بد وأن يقرأه من خلال تلك الصحيفة اللبنانية ـ العربية التي لم تكن عند صدور عددها الأول مجرد إضافة إلى عشرات الصحف اللبنانية والعربية في ذلك الحين، بل سرعان ما تحوّلت، وبسرعة قياسية، إلى صحيفة مؤثرة ليس فقط في لبنان بل في معظم أرجاء الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. وهذا التأثير هو نتاج إلتزام “أبو أحمد” الصارم بشعارين “روّسا” زاويتي صفحتها الأولى من العدد الأول للصحيفة حتى آخر الأعداد، وهما “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”، من الجهة اليمنى و”صوت الذين لا صوت لهم” في الزاوية المقابلة.
وحتى تتمتع “السفير” بهاتين الصفتين، اختار المبدع المصري الفنان التشكيلي حلمي التوني الحمامة البرتقالية (نسبة إلى برتقال حيفا). بهذا التكثيف البصري والنحوي لخّص طلال سلمان رؤيته الثاقبة للأسباب الموجبة لوجود هذه الصحيفة. لم يُقدّمها لكي تكون صحيفة لبنانية فقط، ولا صحيفة حزبية، على الرغم من مجاهرته بالانتماء لفكر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي لم تغب عباراته عن “ترويسة” الصفحة الأخيرة للصحيفة من العدد الأول حتى الأخير، بل كما أراد لها أن تكون، أي صحيفة كل مواطن يؤمن بالعروبة بوتقةً جامعةً لكل الشعوب العربية.
ومن خلال الشعار ـ الهدف: “صوت الذين لا صوت لهم”، لم يكن طلال سلمان يُشهر انتماء الصحيفة إلى فئة لبنانية معينة بل أرادها صوت كل الفقراء والمهمشين ليس فقط في لبنان والعالم العربي بل أيضاً في كل أرجاء المعمورة. وهنا لا يمكن للمرء إلا أن يرى وجه الشبه بين هذا التعبير وما قاله القائد الثوري تشي جيفارا “لا يهمني متى وأين ومتى سأموت. ما يهمني ألا يبقى العالم رازحاً بثقله فوق الذين ليس على صدورهم قميص”.
ومن خلال التزام “أبو أحمد” بهذين الشعارين، ثبّت في وجدان جمهور “السفير” أن فلسطين العربية وعاصمتها القدس هي قبلة العروبة وقضيتها الأولى، وبالتالي هي البوصلة التي تُحدّد الصحيفة بموجبها موقفها من أي موضوع سياسي وفكري وإجتماعي وثقافي وفني، ولأنها كذلك، فإن المقاومة كانت القلب النابض لكل هذه الاتجاهات، فكان انحيازه إلى المقاومة في فلسطين ولبنان بأطيافها اليسارية والإسلامية والقومية، وقد عبّر عن هذا الإلتزام في كل كلمة كُتبت في هذه الصحيفة على مدى أربعين عاماً من عمرها. وقد حدّد سلمان من خلال هذا الموقف موقع صحيفته حليفة لكل من ينصر قضية فلسطين في أي من بقاع الأرض.
***
لأن “السفير”.. “صوت الذين لا صوت لهم”، فقد انحازت الصحيفة إلى الفقراء في مواجهة التوحش الرأسمالي.. علماً أن طلال سلمان لم يكن يوماً شيوعياً، لكنه كان بما يُقدّمه من خلال هذه الصحيفة في مقدمة الصفوف الفكرية والسياسية التي تدافع عن طبقة العمال والفلاحين والأجراء وذوي الدخل المحدود، وبهذا المعنى كان صديقاً صادقاً للشيوعيين، يُشيد بانجازاتهم وينتقد بقساوة اخفاقاتهم. لذلك وفي عز ليل الاحتلال للعاصمة بيروت، عندما أطلق الشيوعيون اللبنانيون جبهة المقاومة الوطنية ضد الإحتلال الإسرائيلي، كانت صحيفة “السفير” صوت هذه المقاومة، تتابع انجازاتها وعملياتها على صفحاتها الأولى، فأزعج ذلك الأدوات المحلية للإحتلال فلجأت إلى مواجهة قلم طلال سلمان بالعبوة والقنبلة والرصاصة في محاولة لإسكاته من خلال عملية جبانة فاجرة لقتله، لكنه نجا من تلك المحاولة بأعجوبة، وفشل الجبناء ليس فقط في قتله بل وفي محاولة إسكاته أو تغيير سياسة صحيفته، حتى أنه في زمن ثورة 17 تشرين/أكتوبر 2019 فتح طلال سلمان صالونه في “السفير” لإستضافة عشرات الجلسات التي شارك فيها الشيوعيون ممثلين بأمينهم العام حنا غريب والنائب أسامة سعد والعديد من الوجوه اليسارية، في محاولة لصياغة حضور وازن لهذه الأطياف كلها في الحراك التشريني اللبناني.
***
إلى جانب عشقه الفكري والسياسي للعروبة وفلسطين، كان طلال سلمان مثقفاً ويعطي مساحة يومية للجهد الثقافي، وهو الأمر الذي أتاح له إستقطاب أجيال من الكتّاب والمثقفين والشعراء والمفكرين اللبنانيين والعرب. أيضاً كان طلال سلمان عاشقاً للفن العربي الأصيل، ففتح أبواب “السفير” أمام الفنانيين العرب المرموقين، مبرزاً الوجه المشرق للفن العربي، رسماً وشعراً ونثراً وغناءً وموسيقى، فكانت هناك صفحة “سفيرية” مخصصة للشؤون الثقافية والفنية لم يألُ محرروها جهداً في إبراز المواهب العربية.
بهذه الرؤية انطلق طلال سلمان ساعياً إلى تثبيت موقع “السفير” في عالم الصحافة اللبنانية والعربية، وحوّل الصحيفة ليس فقط إلى مجرد صرخة في واد بل إلى مدرسة مهنية نبشت المواهب اللبنانية والعربية، نثراً وشعراً ورسماً كاريكاتورياً، فأصبحت في زمن قياسي تفوق في إنتاجها أكبر الكليات والجامعات التي تُدرّس مهنة الصحافة. وما الدليل على ذلك إلا مراجعة سريعة في أسماء من تخرجوا من جامعة “السفير” والمراكز التي احتلوها في وجدان القراء وعالم الصحافة والإعلام والسياسة حتى يومنا هذا.
***
أما طلال سلمان الإنسان الذي يصعب فصله عن طلال سلمان الصحافي، فهو قصة أخرى، ولا يقصد من ذلك الكلام عن منشأه ابناً لدركي في قوى الأمن الداخلي في بلدة شمسطار المستلقية على إحدى تلال السفوح الشرقية للسلسلة الغربية لجبال لبنان في البقاع الأوسط، بطقسها القاسي ببرودته شتاءً وحره الحارق صيفاً، ولا بالأوضاع الإقتصادية الصعبة التي عاشها في طفولته وبداية شبابه، بل بذلك الإنسان الذي كان شغوفاً بالجمال في كل شيء، فكان حبه لشمسطار وانتماؤه إليها على الرغم من قضاء معظم أيام حياته في بيروت، فبنى فيها منزلاً شكّل محميته من هموم الحياة ومشاكلها، ولم يغب عنه يوماً متابعة شؤون أهل هذه البلدة الوادعة وشجونهم، فكان يمد يد العون لهم بما كان يستطيع من تأمين فرص عمل ومن حثهم على متابعة العلم مهما كلّف الأمر. ولأن شمسطار قرية من قضاء بعلبك فقد عشق سلمان بعلبك ولم يأل جهداً في الترويج لمعلمها الأثري الكبير إلى أن استحق أن يكون واحداً من أعمدتها. أما طلال سلمان الأب، فهو على الرغم من رعايته لعائلته المباشرة فإنه كان أباً لكل من عملوا في صحيفته، وقد حرص بشدة على تأمين كل مستحقات موظفي “السفير” عند اقفالها على عكس متمولين كبار كانت لهم مواقع أولى في السلطة أقفلوا مؤسساتهم الاعلامية ولم يدفعوا الحد الأدنى من مستحقات موظفيهم.
من ضمن شغف “أبو احمد” بالجمال كانت المرأة تحتل حيزاً كبيراً في رؤيته للجمال، فكان يقول في جلساته الخاصة “إن الله جميل ويحب الجمال”. ولكنه كان خجولاً كطفل، وبرغم غزارة قلمه، فإن لسانه كان يتلعثم في حضور الجمال النسوي، فيكتفي بالتعبير عن إعجابه بالاستعانة بأغاني كبار المطربين العرب من أمثال أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وغيرهم.
***
وعلى الرغم من انشغال “أبو أحمد” الدائم بشؤون البلاد والعباد فقد كان مُحباً للحياة ومقبلاً عليها بكل شغف، غير آبه بضرر التدخين عليه، فمارسه بنهم ما بعده نهم إلى درجة أنه كان يُشعل أكثر من سيجارة في آن معاً من دون أن ينتبه للأمر.
كان طلال سلمان يستعين بالضحكة والنكتة لوصف وضع سياسي لا يعجبه، ويضحك من أعماق قلبه لنكتة أو مقلب، ولأنه متحدث لبق كان يتجنب أن يجرح شعور محدثه إن كان يُعارضه الموقف وإنما يعبّر بطريقة دمثة عن اعتراضه.
***
عرفت “أبو أحمد” شخصياً قبل ما يقارب الأربعين عاماً، وعلى الرغم من فارق السن بيننا ومن أنني لم أعمل يوماً في صحيفة “السفير” فقد كان لي بمثابة الأب والصديق والأخ والمعلم، ألجأ إليه بحثاً عن مشورة مهنية أو شخصية وأتسامر معه في جلسات تمتد لساعات الفجر، فهو في كل موضوع لديه قصة أو طرفة، بطلها يكون عادة مسؤولاً عربياً أو محلياً، وما أكثر ما التقى “أبو أحمد” هذا النوع من البشر، ولكنه كان دائم الحرص على عدم التجريح بأحد، حتى أولئك الذين لم يحظوا باعجابه. وعندما يتحدث تخال نفسك تقلب صفحات موسوعة معرفية ضخمة بلا فهرس لها، وعندما تتحدث في الفلسفة فإنه يستحضر لك أقوال كبار الفلاسفة الإغريق القدماء من أرسطو وأفلاطون ويمضي معك إلى ديكارت ونيتشه وماركس معرجاً على الفارابي والغزالي وابن سينا.
ولا يمكن ان تحدث “أبو أحمد” في السياسة من دون أن يدخلك بتفاصيل التفاصيل لما يجري في كل قطر عربي مع سرد دقيق للأحداث وأسماء الأشخاص والأماكن، ولم تكن معارفه في الفن العربي لتكون أقل من ذلك وهو العاشق للفن الأصيل ولا سيما الطربي منه. وحدها التكنولوجيا لم تكن أمراً مُستساغاً لديه، إذ أذكر أنني زرته في مكتبه في صحيفة “السفير” قبل أكثر من عشرين عاماً، وكان يجلس إلى طاولة المكتب وعلى يساره طاولة مكتب أخرى فارغة، فسألته لماذا يا “أبو أحمد” ليس لديك جهاز كومبيوتر فقال لي “في الحقيقة أحضر لي الشباب جهازاً ووضعته على هذه الطاولة هنا، ولكن بعد شرح مفصل لأساسيات استخدامه لم تنشأ علاقة حب بيني وبينه، وبقي حنيني للقلم والورقة يشدني بعيداً عنه، فأهملته وأبقيت على القلم والورقة ولكن في كل مرة أجلس فيها إلى مكتبي كنت أشعر وكأن هذا الشيء المقيم على الطاولة يتهمني بأني جاهل، فقررت التخلص منه.. وهكذا صار”.
***
رحل طلال سلمان اليوم والعروبة في أسوأ أوضاعها، إذ أن هناك محاولات حثيثة لتحويل فكرتها من بوتقة جامعة تحمل قضية فلسطين إلى مسمى مزور المضمون تحت شعار الحداثة بعنوان “العروبة الحديثة” التي يتراكض الداعون إليها للتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين والجولان وبعض الأراضي اللبنانية فيما أقطار عربية عدة تعاني حروباً مفروضة عليها لتفكيكها وتقسيمها أكثر من التقسيم الذي حصل في القرن الماضي. رحل طلال سلمان أما “الذين لا صوت لهم”، فقد باتوا فعلاً بلا صوت، فهم يرزحون تحت ثقل عصابة متحكمة برقابهم تعيث فساداً وسرقة ونهباً بمدخرات عمرهم وبمستقبل أبنائهم.
رحل طلال سلمان الحارس الأمين للفكر العروبي وانقطعت صلة وصل كبيرة كانت تجمع شعوب هذه الأمة من المحيط إلى الخليج بالكلمة الصادقة المخلصة.
برحيل طلال سلمان خسر لبنان صوتاً وقلماً لم يهب الاغتيال من أجل إعلاء كلمة المقاومة في وجه المحتل ورفضاً لنظام طائفي بائد، وانكسرت برحيله راية من رايات المدافعين عن الحق في وجه الظلم والقهر. أما نحن أبناء منطقة بعلبك الهرمل، فإن رحيله يُشكّل يُتماً قاسياً عانينا البعض منه عند إقفال صحيفة “السفير”.. وها هو يكتمل اليوم برحيل “أبو أحمد”.
رحيل “أبو أحمد” يترك في قلبنا حرقة وفي حلقنا غصة، ففي الليلة الظلماء يفتقد البدر، وهل من ظلمة أكثر من التي نعيشها؟
نشرت في موقع 180 بوست