هَزُلَتْ!.. ولم تعد أخبار لبنان عنواناً لمأساة عربية مفتوحة، ولا هي رجعت إلى حيث كانت طرائف ولطائف فريدة يتسلى بها »العرب« وهم يتابعون لعبة المضاربة بالأسهم في ظل التهاب أسعار النفط ومشتقاته الحارقة!تحوّلت »أخبار« لبنان إلى فصول متهافتة في مسرحية كوميدية هابطة يستشعر »جمهورها« المهانة والإذلال وغربة الطبقة السياسية الحاكمة عن الناس وهمومهم الثقيلة، وأولها وأخطرها هذه الخفة في تناول »الشأن العام«…هذه »عينة« لمن يريد أدلة حسية على »طرافة« الوضع الذي ما زال خطيراً في هذا الوطن الصغير المهدد في كيانه:رئيس الجمهورية، المنتخب بما يشبه الإجماع، كثمرة لسلسلة من العجائب والغرائب والقرارات الخرقاء، أشبه »بمعتقل« في قصره، يستقبل ويودع، تجيئه الوفود مستبشرة فتسمع منه نواياه الطيبة ثم تنصرف وهي مشفقة عليه من أفكاره التوحيدية التي تربى عليها في الجيش، والتي تعاني من نقص »الأوكسجين« خارجه…رئيس المجلس النيابي ينتبه إلى أنه يكاد يكون بلا عمل فيغيب في حرجه أياماً ثم »يقطع جولته الخارجية« ويعود ليباشر من جديد مهمة »استقبل وودع« و»شجع وتمنى التوفيق«…في الظل، تبدأ اللجان النيابية مناقشة مشروع أشوه لقانون معتق للانتخابات يؤكد الانفصال إلى حد التجافي أو القطيعة بين قطعان الرعايا: ليذهب كل منهم في سبيله إلى »اختيار« الأعرق في طائفيته أو الأثبت على مذهبيته…… والسرايا فارغة إلا من الرئيس المكلف تشكيل الحكومة… والتشكيل مهمة دقيقة، تتطلب بعد حفلات المصارعة للتوافق على النسب، حفلات ملاكمة للتفاهم على المرشحين لدخول نعيم الحكم، ثم تحين ساعة الامتحان الشفهي عبر »جلسات استماع« للتثبت من »الكفاءة«. لا تسل كيف! هذا واحد من أسرار الدولة التي لا بد من حفظها حتى لو غابت الدولة!في هذه الفترة من »التشاور« لا يتوقف الزمن طبعاً، ولا تكف أسعار الحاجيات عن مواصلة الارتفاع من 30 إلى 40 في المئة: في المياه، والنفط ومشتقاته، المازوت والبنزين والفيول، الفواكه، المواد الأولية عموماً والخبز… قبل التوقف أمام الأقساط المدرسية وهموم الشتاء… ومعها جميعاً الحكومة الجديدة ومعارك الإدخال إليها والإخراج منها، قبل الانتقال إلى »حروب« ما بعد التشكيل من تعيينات وتبديلات في »مواقع القرار«، مدنية وعسكرية ومن ثم قضائية، ودبلوماسية، وإدارية بالطبع…[ [ [أية حكومة، وأية وحدة، وأية وطنية؟!بعد أربعين يوماً من اتفاق الدوحة نجد أنفسنا خارج اتفاق الطائف: نمشي »بأقدامهم« إلى سجن الطوائف وقد تعزز بملاحق مذهبية،مرة أخرى: الوزير العتيد هو الأكثر طائفية من أقرانه ـ منافسيه. لا تهم الكفاءة، لا تهم الجدارة، لا يهم تاريخه الشخصي وما قد يتضمنه من فضائح وارتكابات وجرائم، الطائفية تجب الذنوب جميعاً. هي قانون العفو عن الماضي والدليل إلى المستقبل.لا تستطيع هذه الطبقة السياسية، بالأصيل من أركانها أو الطارئ بالتزكية الخارجية، أن تحفظ وحدة وطنية، فضلاً عن أن تبني دولة.ليس السفراء الأجانب متطوعين هبوا، مدفوعين بشهامتهم، لنجدتنا وإنقاذنا وتطهيرنا من آثام الانقسام والافتراق إلى حد التصادم في الشوارع، هذا إذا نحن برّأناهم من مهمة الضلوع في تعميق أسباب الخلاف.أما الامتحان الشفهي للمرشحين لدخول جنة الحكم فيمكن تلخيصه بأسئلة محددة من نوع:ـ أثبت أنك أكثر طائفية من منافسيك! أثبت لنا بالدليل الحسي أن ليس لك صديق أو رفيق أو حتى »معارف« من خارج ضيعتك أو زاروب بيتك في المدينة. قدم لنا سجلك العدلي لنعرف في كم من المعارك الطائفية شاركت؟!ـ اثبت جهلك بالمناطق اللبنانية الأخرى… أنك لم تكن يوماً في الأرز أو في بعلبك! أنك، أبداً، لم تزر بنت جبيل أو الخيام، ولم تشرب من مياه الحاصباني ولا أنت سألت عن مصبها! أنك لا تعرف أين تقع بعذران أو كفرحونة! أنك لم تدخل برج حمود مرة، ولم يصدف أن قصدت مزيارة، أو رعيت ود أصدقاء في طرابلس أو تجولت في عكار! اقسم أنك لا تعرف طورزيا أو يحشوش، ولا قادتك طريقك يوماً إلى العاقورة أو البترون! احلف أنك لا تعرف أين تقع الهرمل ولماذا يهجرها نهرها العاصي متجهاً إلى الشمال! وماذا عن بيروت، هل أنت من شرقيها أم من غربيها أم من منطقة الفصل الجديدة داخل »الغربية« ومن حولها، وبين أرمن الشرقية وعربها؟
