للوهلة الأولى يبدو الحديث عن فلسطين، بوقائعها الجارحة اليوم، لبنانياً في كثير من وجوهه ودلالاته وحتى في التعابير المستخدمة في توصيفه.
بالمقابل فإن الحديث عن لبنان يستبطن، في ما يستبطن، تخوفاً من الانزلاق إلى ما وقع لشعب فلسطين، أو ما وقع فيه شعب فلسطين، على أيدي قياداته المتنابذة والتي يحاول بعضها عبر سلطتها وبعضها الآخر عبر حكومتها ، من تشويه للقضية التي كانت مقدسة، ومن تبرير لتخلي العرب عنها بألف ذريعة وذريعة، وللأصدقاء الكبار لسلطته المشروخة بالانتخابات الديموقراطية، بالأمر الأميركي، لأن يغسلوا أيديهم من مصير هذا الشعب المنذور للعذاب والخيبات برغم تضحياته التي تكاد تكون بلا مثيل في التاريخ الإنساني جميعاً..
كل ذلك قبل الحديث عن الخطط الإسرائيلية للاستيلاء على الأرض الفلسطينية، بتقتيل أصحابها أو نزع ملكياتهم ومحاصرتهم داخل غيتوات معزول بعضها عن بعضها الآخر، ومعزولة جميعاً عن هويتها الأصلية بجدار الفصل العنصري، في حين يبقى قطاع غزة حقلاً للتدريب بالذخيرة الحية للطيران الحربي الإسرائيلي وللمدفعية الإسرائيلية ولهواة القنص بقذائف الطائرات من دون طيار.
وبغير حاجة إلى استعادة ما لا فائدة من استعادته من التجربة الفلسطينية في لبنان، والتي أضرت بالطرفين معاً، بمعنى أن كلاً منهما قد أخذ من الآخر عيوبه وأخطاءه ووجوه قصوره، فشوّه تجربته النضالية الذاتية وأساء إلى قضيته الوطنية، يمكن القول براحة ضمير الآن، إن كلاً من الطرفين مهدد بخسارة لا يمكن تعويضها إذا هو لم يبادر إلى تحصين وحدته الوطنية (حتى لا نقول إلى استعادتها..) بأي ثمن وبكل ثمن، لأنه بها يكون، ومن دونها لا يكون وطن ولا سلطة ولا دولة.
إننا نشهد في فلسطن آخر فصول تأديب الشعب على مخالفة الأوامر بأن يعيد إنتاج سلطته العاجزة والفاسدة ذاتها، إنما بالديموقراطية… فكان أن أخطأ الاختيار والأرجح بدافع الانتقام لكرامته فاتحاً الطريق أمام حماس لتدخل شريكاً مع الرئيس بالمساكنة إن لم يكن بالرغبة..
… وقبل الرئيس على مضض، معتبراً أن الطريق ملغمة بالمشاكل والإشكالات، سياسية وأمنية ومالية، بما يكفي لكي تسقط حماس بأسرع مما يقدر قادتها، الذين تبدوا متشوقين إلى السلطة بأكثر مما كان متوقعاً، ومستعدين للتنازل عن كثير من شعاراتهم ومنهجهم التطهري مقابل الصمود فيها..
لكن دائرة الحصار مقفلة فأين المفر: الإدارة الأميركية ترفض الاعتراف بهم، وبالتبعية فإن معظم الدول العربية لم تفتح أبوابها أمامهم، ومن فتحها مواربة تلقى تأنيباً قاسياً فبادر إلى إقفالها، وانحصر التعامل الرسمي مع الرئيس الذي حصر السلطة بنفسه وبالأجهزة والشخصيات والوجوه الكالحة التي كان يطعن شخصياً بنزاهتها وكفاءتها بل حتى بوطنيتها..
ولقد اختير أمضى الأسلحة وأكثرها فتكاً لهذه الحرب بالحصار: المال!
المال ليس بما هو تقديمات ومساعدات وهبات للإعمار والنهوض بمناطق السلطة، وإعادة بناء ما هدمه الاحتلال.
.. بل المال بما هو مرتبات وأجور ومكافآت وإعانات لشعب أكثريته من العاطلين عن العمل إن لم يكن في أجهزة السلطة، الشرطة أساساً ثم الجهاز المدني… والمال بما هو ضرورة لإدامة عمل المرافق العامة، أو لتعويض ما تدمره إسرائيل (المطار، المرفأ، الكهرباء، المستشفيات) أو ما تحتجزه من عائدات جمركية وضرائب هي من حق السلطة بموجب اتفاقات ضمنتها الدول بقيادة الإدارة الأميركية ومشاركة الاتحاد الأوروبي ثم الرباعي الذي لا تزيد فاعليته أبداً بانضمام الاتحاد الروسي والأمم المتحدة إليه.
من المفارقات التي لا بد من تسجيلها هنا أن العرب قد أفسدوا حركة النضال الفلسطيني مرتين: مرة بإغراقها بالثروة التي أفسدت الثورة، ومرة بقبض اليد ومنع المال عن حكومتها، وبالتالي عن شعبها الذي يخرج الى الحكومة شاهراً سلاحه لأن الجوع كافر… هذا مع وعيه أن التجويع سياسة أميركية إسرائيلية عربية (بالأمر) بمشاركة مباشرة من الرئاسة الفلسطينية لإسقاط حماس ولو عبر فوضى مسلحة قد تتطور لا سمح الله إلى حرب أهلية..
فحتى لو انتهت الفوضى بإسقاط حكومة حماس فأية سلطة ستبقى لتلك السلطة المستعدة لتعريض شعبها لمخاطر الاقتتال فقط من أجل أن تبقى في سدة الرئاسة وتلغي خصومها بتجويع الأهالي وصرفهم عن مواجهة عدوهم إلى إسقاط حكومتهم التي اختاروها ذات ليلة شتاء صدقوا معها الوعود الأميركية بأن الديموقراطية لا الكفاح المسلح ولا الشعارات المتطرفة هي وحدها طريقهم إلى تحقيق حلمهم بدولة في ما تبقى من بلادهم بعد كل ما صادرته إسرائيل من أرض السلطة (أما أرض الوطن فقد عادت إلى خانة الذكريات والأحلام)…
لا سلطة، ولا دولة، بل ولا وطن مع الحرب الأهلية..
يفترض أن لبنان قد استوعب هذا الدرس، الذي أكد الفلسطينيون في ماضي تجربتهم الغنية أنهم يعرفونه معرفة اليقين.
وإذا كانت القوى الدولية (والعربية) تحاول ضرب القوى الوطنية بعضها بالبعض الآخر في صراع عبثي على السلطة من أجل إسقاط الدولة والحلم بوطن مستقل وذي سيادة، فالبديهي أن شعباً له تجربة مثل تجربة الشعب اللبناني سوف ينتصر بوعيه وبحرصه على وطنه ودولته على هذه المؤامرة.
… أما شعب فلسطين فليس له إلا وعيه بالخطر، وإلا تجربته النضالية الغنية للحفاظ على حقه في أرضه، بتدعيم وحدته الوطنية في وجه كل من يحاول العبث بها، سواء من أهل الداخل أو من أهل الخارج أو من الأصدقاء .. لا سيما الكبار، وبالدرجة الأولى الأكبر منهم، قبل إسرائيل وبعدها.
والشعب الفلسطيني وحده هو المؤهل لحسم هذا الصراع باستنقاذ ما تبقى من فلسطين و السلطة قبل أن تقضي عليها وزيرة خارجية الإدارة الأميركية في زيارتها الجديدة التي لها عنوانان متلازمان إلى حد التكامل: فلسطين ولبنان…
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان