دخلت، مع جيلي، مصر من بوابة صحافتها، يومية وأسبوعية، وفي رحلتي الاولى الى القاهرة، في مطلع تشرين الاول 1962، آتيا من الجزائر، وقد جعلتها محطتي، كان أول عنوان قصدته فيها دار روز اليوسف، التي طالما استمعت الى سليم اللوزي (الذي بدأت معه في “الحوادث” رحلتي مع الصحافة) يحدثنا عنها ليس كمجلة بل كمركز توجيه وتأثير، وكدار توليد لنخبة من الصحافيين والفنانين التشكيليين الذين أطلقوا منها في ما بعد، مجلة “صباح الخير” التي شكلت فتحا في صحافة الشباب.
سمعت، مع زملائي الذين تعلمت منهم وعليهم في “الحوادث”، من سليم اللوزي تقديراً عظيماً للسيدة فاطمة اليوسف التي أسست “روزا” كما كان يسميها مع المصريين تدليلاً مشفوعا بالإكبار.
ولقد حدّثنا عن هذه السيدة التي ولدت في طرابلس وهاجرت الى مصر، وعملت بداية الامر في الحقل الفني كممثلة، قبل أن تصدر مجلة باسمها الفني “روز اليوسف”، لكي تهتم بأمور الفن… ثم جرفتها التحولات السياسية الهائلة التي كانت تهز مصر في الاربعينيات، عبر الصراع بين القصر والأحزاب السياسية، وحزب “الوفد” بزعامة مصطفى النحاس أساساً، ثم بين القصر والاحتلال الانكليزي، فصيّرتها مجلة سياسية، بل ربما المجلة السياسية الأولى، متخطية “آخر ساعة” التي كان فارسها القدير محمد التابعي قد جعلها مجلة كل الناس.
وفهمنا من سليم اللوزي كيف جرفت السياسة الممثلة، ومن ثم المجلة، من عالم الفن الى عالم السياسة، لتغدو روز اليوسف اشبه بمنشور سياسي يدعو الى مقاومة الاحتلال والقصر معاً، ويفضح الطبقة السياسية التي كانت تفيد من صراع الطرفين لتأخذ نصيباً اكبر من السلطة حتى كانت فضيحة 4 فبراير (شباط) 1942 الشهيرة، حين طوّقت قوات الاحتلال قصر عابدين وأنذرت الملك فاروق بضرورة تغيير الحكومة وتكليف مصطفى النحاس (باشا) بتشكيل الحكومة الجديدة، بوصفه زعيم الاغلبية النيابية، وإلا عزلته عن العرش… وكانت تلك الحادثة بداية النهاية لحزب الوفد الذي كان قد أسسه سعد زغلول في اعقاب ثورة 1919.
وتابعنا مع سليم اللوزي سيرة روز اليوسف، فأخبرنا كيف تولى إحسان عبد القدوس (ابن فاطمة اليوسف) الذي كان قد غدا شابا ندي القلم، فضح صفقة الاسلحة الفاسدة التي كانت بين اسباب الهزيمة التي مني بها الجيش المصري في مواجهة “العصابات الاسرائيلية” في فلسطين، والتي شكلت صاعق تفجير ثورة 23 يوليو 1952… وذلك قبل أن يتحول الى واحد من امتع كتّاب روايات الحب بقلمه الاخضر عاشق الحياة.
ومن سليم اللوزي ايضاً سمعنا عن جيل الشباب الذي اقتحم “روزا” مع إحسان، والذي تولى قيادة طلائعه لتأسيس “صباح الخير” احمد بهاء الدين، الذي جاء الى الصحافة من سلك القضاء… وكان معه في هذا الانجاز الرائد حسن فؤاد وكوكبة رسامي الكاريكاتور برعاية صلاح جاهين ومعه إيهاب شاكر وبهجت عثمان وعبد السميع ورجائي وحجازي الخ…
كذلك سمعنا منه الكثير عن تجربته في دار الهلال، التي انتقل إليها وعمل فيها محققاً متجولاً في مجلة “المصور”، فزار بلدانا عدة وتعرف الى ملوك ورؤساء وثوار وقادة رأي، وأضاف الى فن الريبورتاج التحقيق والحوار السياسي.
اما “الاهرام” فقد فرضت نفسها علينا، مع قيام دولة الوحدة بين مصر وسوريا، لا سيما عددها الاسبوعي، اذ كان استاذنا محمد حسنين هيكل يكتب فيه مقاله “بصراحة” الذي شكل لحقبة طويلة مرجعاً يمكن اعتماده لفهم التطورات التي هزّت هذه المنطقة على امتداد الخمسينيات والستينيات وصنعت لها تاريخها الجديد.
وفي الطابق السادس، او طابق الخالدين، من مبنى الاهرام الحديث كانت لنا جلسات ممتعة مع عظماء بينهم توفيق الحكيم ولويس عوض والحسين فوزي.
وكان مما يلفت، من باب التباهي، ان مؤسسي هذه الصروح الصحفية جميعا كانوا من اللبنانيين: سليم وبشارة تقلا (الاهرام) جرجي زيدان (دار الهلال) وفاطمة اليوسف (روز اليوسف وبعدها صباح الخير).
الهزيمة… صحافياً؟!
لكن ذلك كله يقبع الآن في الماضي البعيد، وحين أستعيده مع زملائي الشبان فأحدّثهم عن تلك المؤسسات الصحافية العريقة ودورها المتميز في تعزيز الوعي السياسي ونشر المناخ الثقافي، وكشف الكثير من الاسرار والخفايا التي ميزت تلك الحقبة الغنية بالتحولات الهائلة التي أحدثتها ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، ينظرون إلي متشككين وهم ينظرون الى حال الصحافة المصرية اليوم.
لكنهم، حتى وهم يشككون في ما كان، فإنهم لا يستطيعون الحديث عن جمال عبد الناصر بصيغة الماضي.
فهذا القائد العظيم بإنجازاته، كما بأخطائه وخطايا نظامه، يكاد يستعصي على الموت. انه حاضر بقوة، أقله كمعيار لكل حكام هذه الايام خصوصاً وأننا لم نعرف من إنجازاتهم الا التردي والقمع والتسليم للعدو الإسرائيلي والخضوع لشروط الهيمنة الأميركية. إنهم جبابرة على شعوبهم، أقزام أمام الاجنبي، يلبّون مطالبه من قبل أن يطلب، ويفتدون عروشهم ببلادهم ومواطنيهم.
ما بعد مجزرة الصحافيين…
كانت محطتي الأولى، إذاً، في زيارتي الاولى للقاهرة: مجلة “روز اليوسف” في شارع القصر العيني، بقلب العاصمة.
لم أكن اعرف احداً فيها، وإن كنت احفظ اسماء جميع كتّابها ورساميها وحتى مدير المطابع وبعض عمالها، من خلال المقالات والأحاديث الحميمة التي كان يرويها احسان عبد القدوس، او أحمد بها الدين، او حسن فؤاد، او صلاح جاهين في بعض صفحاتها.
دخلت متهيباً، واستقبلني الحاجب بتهذيب يخالطه بعض الاسترابة، وربما كان السبب خجلي او ارتباكي وأنا اسأل عن اسماء لا اعرف اصحابها.
(سأدخل، بعد سنتين مكاتب روز اليوسف وصباح الخير، وأتجول بين المبدعين فيهما وكأنني في بيتي… فقد سلمني بهجت عثمان مفاتيح القلوب، وعرّفني الى تلك النخبة من الموهوبين الذين ضاعوا بل ضُيّعوا حين ضُيّعت مصر)..
ذلك كان في الماضي الذي غدا من الذكريات.. الموجعة.
اما اليوم فإني حين اكون في القاهرة فإن أكثر ما أتجنبه هو زيارة دور الصحف التي تضم الغالبية الساحقة من الزملاء الذين صاروا اصدقاء عمر ورفاق سلاح.
إن حالة الصحافة في مصر، بمؤسساتها عموماً، مفجعة.
وأفهم ان تكون الاحوال السياسية المتردية قد تسببت في إرباك هذه المطبوعات سياسياً، فأخذتها بعيداً عن دورها الطبيعي في توسيع دائرة الوعي، وفي نشر الحقائق عن “المحروسة” في اقتصادها وفي التعليم وفي الزراعة والاهم في الدور القومي الذي تم اغتياله، مما أسقط معه الصحافة في مجزرة الصحافيين المعروفة في صيف العام 1973… التي طالت اهم الأعلام وأشجع الكتاب والرسامين وكل من قال “لا”.
ولكن ما لا يمكن فهمه هو هذا التردي المهني الذي اصاب الصحافة المصرية فغيبها عن الدور وعن القارئ، داخل مصر بداية، ثم في المحيط العربي الذي يفتقدها بقدر ما يفتقد مصر ذاتها.
*****
وتحتاج الصحافة المصرية الى دراسة متأنية لاستكشاف اسباب التدهور الخطير الذي اصابها، في مؤسساتها العريقة، وفي دورها المفتقد داخل مصر كما في محيطها العربي الذي طالما اعتبرها منارة ثقافية ومصدراً ممتازاً لإخباره بما يحدث ولمساعدته على التحليل الصحيح للأخبار ودلالاتها.
ان الطفرة التي شهدتها مصر في اصدار صحف جديدة، في السنوات القليلة الماضية وتحت عنوان “الانفتاح” والاخذ بتلابيب الليبرالية، لا تضيف كثيراً الى رصيد الصحافة المصرية، بل لعلها بمجملها قد سحبت منه.
ان أي مواطن مصري يبلغك بغير ان تسأله ان هذه الصحيفة الجديدة او تلك قد اصدرتها ممالك النفط والغاز مع وكلائها من المصريين، او ان تمويلها اميركي وتحت لافتة تشجيع “الديموقراطية” وتيارات التغيير و”الرياح الجديدة”!
وتسمع من رجال الاعمال، كما من اهل الصحافة، بغير ان ينفي المسؤولون، روايات عن المبالغ التي دفعتها جهات اميركية لهذا الصحافي او ذاك من اجل اصدار صحيفة جديدة.. هذا اضافة الى المنح الدراسية، وإلى التكليفات المدفوعة للعديد من اساتذة الجامعات لإعداد دراسات معينة عن جوانب معينة من الاحوال الاجتماعية في مصر… ويمكن الافتراض بأن النموذج الاوضح عنها هو تكليف مجموعة من الاساتذة بإعداد دراسة عن “الجوار الفقير لثكنات الجيش المصري”، وكيف تعيش وكيف تفكر تلك المجاميع من الفقراء جنبا الى جنب مع الضباط والجنود في الثكنات… وغالباً ما يكون الجوار من اهالي هؤلاء العسكريين وعائلاتهم…
*****
المؤسف ان التدهور الذي اصاب الصحافة المصرية قد تخطى الجانب المهني ليحرفها عن دورها السياسي المرتجى… فهي لم تنسحب من الميدان العربي فحسب، بل ان بعض المجلات والصحف قد انقلب على هويته ودوره، فانتقل الى معسكر الخصم..
وفي الموضوع الفلسطيني كما في الموضوع العراقي تشن بعض هذه المطبوعات ذات الرصيد التاريخي حملات شعواء على كل مسلك مقاوم للاحتلال، ولا تتورع عن الضرب على الوتر الطائفي والتحريض على الفتنة (في العراق).
إن أوضاع الصحافة العربية عموماً لا تسر صديقاً ولا تبهج حريصاً، بل هي تحزن مثلي مرتين: الأولى لسبب سياسي (قومي) هو افتقاد دورها الريادي، والثاني هو سبب مهني… فقد أخذنا هذه المهنة التي نعتز بانتمائنا إليها عن أساتذة مصريين كبار.
ويمكنني، كما يمكن لأي من أبناء جيلي، أن أسرد عشرات الأسماء ممن أخذنا عنهم العلم والمعرفة، وتأثرنا بأساليبهم، ولعلنا حاولنا أن نقلدهم في البداية وقبل أن يشتد عود كل واحد منا فيصير له أسلوبه.
والحزن حزنان، عشية ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر: حزن على خسارته التي لم يعوّضها أحد بعده، وحزن على مصر التي لا مجال لقيامة العرب من دونها… والتي سننتظرها مهما طالت غربتها عن ذاتها وعن دورها واثقين من أنها لا بد عائدة إليه، وإلينا.
حديث ذكريات عن عصر مضى وانقضى.
تنشر بالتزامن مع جريدة “القدس” الفلسطينية