انصرف “الأستاذ” فانغلق، وراءه، بابُ مدرسة. لا أعرف مداخل هذه المدرسة التي أشاد العارفون بتميّزها، خطًّا وحِرفة. أعرف القليل من مساحاتها الخارجيّة، حيث جمعتني ﺑ”الأستاذ طلال”علاقة مودّة طويلة.
كلما زرت بيروت، بعد إقامتي فيها، كان الذّهاب لرؤية الأستاذ طلال سلمان من أولويّاتي. وإن غادرتها، من دون أن أراه، حسبت أنّي لم أكن فيها. كان، في ذهني، مَعلمًا كثيف الرّمز، لبنانيًّا، وعربيًّا وإنسانيًّا.
آخرَ مرّةٍ رأيته فيها، في مكتبه، قبل أشهر، تشكّى من أوضاع العرب وممّا آلت إليه أكثر ممّا تشكّى من وضع صحّته. تحدث كثيراً عن فلسطين. حدّثني عن محمود درويش وعمّا جرى بينهما من حديث، قبل سفر محمود إلى أميركا لإجراء عمليّة جراحية. له أسئلة عن آخر لحظات محمود. سألته عن “نسمة الذي لا تُعرف له مهنة إلّا الحبّ” فقال، ضاحكاً: “لا يزال يقول، هو، فيَّ، لا يصمت…”.
كريمُ القلب والفكر هو “الأستاذ طلال”. أذكر حدثاً: كان عليّ أن أنظّم، في بيروت، الملتقى الثامن لأجيال علماء الاجتماع العرب، في صيفَ 1998. قبل أيام قليلة من موعد الملتقى، خذلتني المؤسسة الجامعيّة التي كنت متعاوناً معها في ذلك. فهاتفته، من تونس، بحثاً عن حلّ. قال، من غير تردّد: “لا تُلغ الملتقى، وليكن التعاون مع السّفير”! وتمّ الملتقى، بمتابعة شخصية منه، في ظروفٍ طيبة. كما غطّت “السّفير” أعماله، بشكل يومي، وطوال أيام الأسبوع. وبرغم كل ما بذله “الأستاذ” من جهد، بما في ذلك أخذ المشاركين للقاء شخصيات لبنانية بارزة، منهم البطريرك صفير ورئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، فقد ودّع المشاركين من شباب الباحثين العرب بقوله: أعتذر عن التقصير!
انغلق، وراءه، باب مدرسةٍ بُنيت في آخر موجات مدٍّ يساري عربي، فكان لها أن ترفع شعار “صوت الذين لا صوت لهم”، وأن تجعل من “السفير” “جريدة لبنان في الوطن العربي، وجريدة الوطن العربي في لبنان”. وأن تكون لها ألوانٌ فلسطينية، ورسومُ ناجي العلي. هذه السرديّة الكبرى تلاشت في واقع عربي لئيم. و”الأستاذ طلال” أدرك ذلك جيّداً، ولكنّ خيبته لم تُفقده الحدس والأمل في جيل عربي لم يستبطن الهزائم، وله فهم جديد لطبيعة الخلل وإرادة أكثر تحرّراً في تجاوزه.
نشرت في موقع 180 بوست