تدور أعنف الصراعات (المعلنة) على السلطة في بلاد لا يحكمها أهلها تماماً، أو بالدقة: لا يحكمونها لوحدهم، ولظروف خارجة على إرادتهم، غالباً، وبسبب من انقساماتهم التي يفترض أي عاقل أنها أقل شأناً من أن تكون ذريعة لتهديد الوطن في سلامته والشعب في وحدته ومشروع الدولة الذي لما يكتمل في أهليته للحياة.
لنقفز من فوق العراق حيث يمكن تحميل الاحتلال الأميركي المسؤولية عن كل الفظائع التي تجري فيه، والتي تسبّبت حتى اليوم في مقتل أكثر من 650 ألف رجل وامرأة وفتى وطفل، بشهادة الدراسة الميدانية التي أجرتها كليتا الطب في واحدة من أرقى جامعات العالم (جون هوبكنز الأميركية) ومعها جامعة المستنصرية في بغداد.
ولنتوقف بالتحديد أمام ما يجري في لبنان، ثم في فلسطين، أخذاً بالاعتبار الفوارق الموضوعية بين الحالتين، وإن كانت القواسم المشتركة بينهما كثيرة، على الأقل في النتائج.
أما لبنان فتتناقص سيادته بقدر ما يتزايد النفوذ الأجنبي فيه وقد بات معلناً، وهو نفوذ يمتد من السياسة إلى الاقتصاد إلى الاجتماع إلى الثقافة وصولاً إلى الأمن.
لقد بات اللبنانيون أكثر تساهلاً من ذي قبل في شأن التدخل الأجنبي الذي كان يستفزهم فيخرجهم من بيوتهم، إلى الشوارع يتظاهرون ضده وضد السلطة إذا ما لمسوا منها ضعفاً أو تهاوناً في كل ما يتصل بالكرامة الوطنية وعنفوان النزعة الاستقلالية والمسّ بالهوية العربية.
ها هم الزوار الأجانب يتوافدون، بمختلف جنسياتهم وأغراضهم، فلا يجدون إلا الترحيب الرسمي، مع اعتراض شعبي مضمر أو محدود إذا كان معلناً، تستوي في ذلك كوندليسا رايس أو العديد من رؤساء الحكومات الغربية… (مع استثناء طوني بلير بسبب من مواقفه الاستفزازية التي بدأت مع احتلال العراق وامتدت إلى فلسطين مع محطة لبنانية تتصل بسماحه للطائرات الأميركية بالهبوط في بعض المطارات البريطانية وهي في طريقها إلى إسرائيل ناقلة إليها القنابل الذكية لتستخدم في تدمير أشد ومذابح أفظع تودي بحياة المزيد من اللبنانيين..).
أما وزراء الخارجية فضيوف… وها قد أضيف إليهم وزراء الحربية وقادة الجيوش الذين يأتون لتفقد قواتهم التي جاءت فاستقرت في جنوب لبنان… لتحميه من الاعتداءات الإسرائيلية، بينما تتولى الأساطيل البحرية حماية إسرائيل كما حددت وبدقة رئيسة الحكومة الألمانية.
ذلك كله أحدث شرخاً في العلاقات بين اللبنانيين أو أنه قد وسّع الشرخ الذي كان قائماً عشية الحرب الإسرائيلية، والذي كان يفترض أن يلحم كنتيجة مباشرة لها.
والسر في السلطة ، لمن تكون، وبأية نسبة، بمعنى: كيف توزع بين الأكثرية والأقلية اللتين تتقاسمان الشارع.
وها هم اللبنانيون يعيشون حالة من القلق المصيري على حاضرهم ومستقبلهم لم يمروا بها وبهذه الحدة، من قبل… خصوصاً وقد جرى توظيف الدين ومن ثم المذاهب في هذا الصراع على سلطة في بلد لا يملك قراره فعلاً، وبغض النظر عن خطب التمنيات والمبالغة في الحديث عن القرار المستقل .
أما في فلسطين فالأمر أدهى وأخطر وأكثر بؤساً…
إن الطرفين المتصارعين على السلطة يقبعان كلاهما في فم الاحتلال الإسرائيلي، ويقتتلان وهما يدركان أن الاحتلال سيكون المستفيد، وأن من يخرج وفي زعمه أنه قد ربح السلطة سيكتشف أنه قد خسر الوطن، ومشروع الدولة على بعض أرضه،
وتسبّب في نكبة جديدة لشعبه.
وكما في لبنان كذلك في النتف من الأرض الفلسطينية المتروكة للسلطة تحت الهيمنة المطلقة للاحتلال الإسرائيلي، يوظف الدين في هذا الصراع بين الطرف الذي يزعم لنفسه الشرعية التاريخية والطرف الآخر الذي يتباهى بأنه الفائز ديموقراطياً بأكثرية أصوات الناخبين.
وبينما تتزايد الاشتباكات بالسلاح، ويتساقط القتلى والجرحى بين المواطنين المجوعين، والمقاتلين الذين انشغلوا بأنفسهم بينما يطاردهم الاغتيال الإسرائيلي، على مدار الساعة، تتهاوى السلطة المفلسة حتى تكاد تندثر، تحت وطأة الضغوط المتعددة المصادر، بما يطوي صفحات مجيدة من النضال التاريخي العظيم لشعب فلسطين لاستعادة الحد الأدنى من حقه في أرضه.
هي السلطة… تتبدى وكأنها أهم من الأوطان وأخطر من مصائر الشعوب التي تطمح إلى حكمها، والتي منها تستمد شرعيتها ويفترض فيها أن تكون في خدمتها لا أن تدفع الشعب إلى الهاوية من أجل استمرارها… ولو على حساب الوطن ومشروع الدولة التي سيتأجل بناؤها جيلاً أو ربما أكثر من جيل.
من يوقف هذا الانتحار الجماعي للأوطان والشعوب العربية؟
إن الفرصة ما تزال متاحة في لبنان، وحتى في فلسطين… إذا ما قرّر الناس ، أهل الأرض بداية، و العرب ، إذا وجدوا، أن يوقفوا مذبحة الأوطان، أخذاً بشعار: عراق واحد يكفي.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان