منذ أسابيع واللبنانيون يعيشون أسرى مسلسل هو مزيج من المأساة والملهاة يحمل عنوان »سلسلة الرتب والرواتب«!
تخرج الصحف، صباح كل يوم، بعناوين عريضة بعضها مجلسي الغرض وبعضها الآخر حكومي الهوى، تبشّر الموظفين بأن نوابهم والوزراء يتسابقون لإنصافهم، فيغرف أولئك بضع مئات من المليارات لنثرها عليهم، فيرد هؤلاء بمضاعفة الليرات المنثورة، على طريقة »خليهم يقرقشوا«!!
أما في المساء فتمتد النشرات الإخبارية المتلفزة وقتاً إضافياً على حساب أهم القضايا العربية والعالمية، ويتناوب على الوقوف أمام الكاميرا »ملوك الكلام« يشرحون ويعلّلون ويبرّرون، يحتسبون ويعيدون الحساب لكي يستقيم ميزان العدالة بالنسبة لجمهور الموظفين، العاملين منهم والمتقاعدين، الأحياء منهم والذين اختارهم الله إلى جواره.
لم يعد للبلاد من قضية إلا السلسلة.
و»السلسلة« تنفع لأغراض كثيرة: للمزايدة، للإحراج، للتسلية وإشغال الوقت الضائع، فالمزايدة لفظية وغير مكلفة، ولا أحد يدفع من كيسه، هذا إذا تم الدفع أصلاً، ثم إن منافقة جيش الموظفين الذي يزيد عديده عن مئة وخمسين ألفاً عملية رابحة وستذكر في الانتخابات المقبلة، كما توفر حسن الاستقبال وتسهيل الأمور في الإدارات وتزكي من يحتاجون الى التزكية لكونهم لا يُذكرون إلا مع اللعنات بسبب الضرائب والرسوم مباشرة وغير مباشرة.
الطريف أن هؤلاء الموظفين الجاري »تغنيجهم« وامتداحهم، الآن، والذين تُكتب القصائد في إخلاصهم وانضباطهم وإنتاجيتهم وسهرهم على خدمة المواطن، كانوا حتى الأمس القريب موضع شكوى مرة ومستمرة.
قيل فيهم، وما يزال يُقال، بلسان الحكومة أساسا، والمسؤولين عموما، ما لم يقله مالك في الخمرة.
اتُّهموا بفساد الذمة، وبالكسل، وبالتقصير، وبأنهم مفروضون فرضاً كضريبة على الخزينة، أي على لقمة عيش المواطن.
وقيل إن ثلثهم، على الأقل، لا يعمل، ولا مكان شرعيا له في الإدارة.
وقيل إنهم بمجموعهم بين أسباب الهدر وبين عوامل الفساد، وبين أسباب الركود الاقتصادي.
ثم ها هم الآن »ضحايا« و»أصحاب ظلامة محقة«، يتقاضون أقل مما يستحقون، ولا تكفيهم رواتبهم البائسة ثلث الشهر، ويتعذر عليهم مع استمرارها متدنية أن يؤمنوا لأبنائهم العلم، وهو غالٍ جداً في بلد النور، والصحة، وهي مكلفة جداً في بلد الهواء العليل والماء السلسبيل، الذي يُحسد من له مرقد عنزة فيه!
وبالتأكيد فإن رواتب الموظفين العاملين في الدولة هي الأبأس والأدنى، وهي أقل مما يجب وتحت المستوى المطلوب لتوفير حياة مقبولة.
وبالتأكيد فثمة مفارقة غير مقبولة بين رواتب العاملين في القطاع العام، وبين الموظفين الممتازين والمتميزين بدخولهم العالية وامتيازاتهم الكثيرة ممن يعملون في المجالس والصناديق أو في الشركات والمؤسسات المختلطة أو تلك التي أنيطت بها مهمات بعض الإدارات الرسمية وبكلفة أعلى بما لا يقاس.
كل هذا صحيح، ولا بد، أخيراً، من إنصاف هذا الذي يخدم مواطنيه من خلال الوظيفة العامة.
ولكن، بعيدا عن المزايدات والمناقصات والإتجار بالموظفين، أليس منطقياً أن تأتي السلسلة تتويجاً للإصلاح الإداري المنشود؟!
أليس منطقياً أن يُعاد النظر أولاً بالكادر الوظيفي، فيتحدد بالدقة عدد الموظفين اللازمين لإدارات الدولة ومؤسساتها، ويصرف الفائض ممن يقبضون ولا يعملون، وهم بعشرات الألوف في ما يبدو؟!
ثم أليس منطقيا أن يتم، ثانياً، التصدي لعملية إصلاح إداري جذري تشمل الأنظمة واللوائح والوظائف، وتحاسب الموظفين مرة، فتطرد (شر طردة) الفاسد والمفسد منهم، حتى لا يبقى هذا السيف مصلتاً على رقاب الجميع، وحتى لا يؤخذ »الآدمي« والنزيه بجريرة »المرتشي« و»اللص« و»السمسار« ممن باتوا بعد الإصلاح المبتور الذي هموا به ذات يوم ثم تخلوا عنه من أصحاب الحصانة والحظوة، وقد رفعوا تسعيرتهم، والأخطر: أنهم باتوا المثال والقدوة، فهم »يفعلون السبعة وذمتها« فلا يعاقبون بل ينالون الترقيات، أو يستمرون في مراكزهم ذات الدخل الممتاز و»يا جبل ما يهزك ريح«؟!
إن الإنصاف الحقيقي للموظفين يبدأ بإصلاح إداري فعلي، يمتد من العدد إلى المواقع إلى الرواتب فإلى الضمانات التي تشكل السلسلة تتويجاً لها.
أما حديث السلسلة بصيغ المزايدة والمناقصة السائدة فلن يؤدي إلا إلى نتيجتين متلازمتين: استمرار الاتهامات بالفساد للجهاز الإداري، ظالمة أو صحيحة، وهذه تبرئة ضمنية للقيّمين عليه من »القادة السياسيين«، وهم هم الفاسدون المفسدون، ثم إرهاق الخزينة أي لقمة عيش المواطن بمزيد من الضرائب والرسوم التي ستزيد من العجز ومن الفساد معاً.
والمسلسل مستمر حتى ما بعد بداية العهد الجديد.. متى بدأ، ولعله سيكون أول امتحاناته المأساوية!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان