حلّ موعد البقاع مع العدوان الإسرائيلي مع أفول أيلول. وهو استقر تدريجيا، حيث كانت الغارات قليلة بداية، ثم بدأت وتيرتها تتصاعد، حتى تحول مع بداية تشرين الأول إلى خط نار، يطال القرى كلها، والطرقات المؤدية إليها. صار البقاء هما، والمغادرة مغامرة.
تسمع صوت المقاتلة الحربيّة المعادية، أو تراها بالعين المجرّدة في سمائك، تتّجه صوبك لتلقي بحممها فوق أرضك، فيما لا تملك سوى أن تبقى حيث أنت، متسائلا إذا كان الهدف المحدّد هو حيث تقف، أو حيث يعيش أشخاص آخرون.
يرسل العدو، بثقة تامّة، تهديده: يتعين على أهل البقاع مغادرة المنطقة في خلال ساعتين كحد أقصى.
كانوا أربعة أشخاص في محل الخيّاط في القرية. زبونان والخياط ومساعدته. يجتاز الشاب، صاحب الدكان المقابل، الطريق مسرعا وهو يحمل هاتفه ويقرأ عليهم مضمون التهديد.
ضحكت زبونة، وضحك الخياط. غضب الشاب “ليست نكتة، (وزير حرب العدو يؤآف) غالانت هو من يقول ذلك شخصيا. هل نغادر؟”
“يا بن عمي لوين؟” يسأل الخياط باسما. “إلى الضاحية؟”.
يخرج الشاب غاضبا، يبحث عن مخاطَب يتعاطف معه.
على مجموعات القرية للتواصل الهاتفي من يعرض منزلا لمن يريد النزوح، ومن يتبرّع بحليب الأطفال من دكّانه، ومن يسأل عن محطة بنزين أو صيدلية أبوابها مفتوحة.
معظم النقاشات تتركز حول معرفة أماكن القصف، وفي بعض الأحيان تنهال سلسلة من النكات التي تقول إننا مازلنا على قيد الحياة. وهناك تداول لأدعية، وللأخبار وبعضها دقيق فيما معظمها بلا أساس. هناك خوف مبطن، وسخرية وتحد ظاهران وصادقان.
مع الوقت، باتت أسماء القرى في تلك الرقعة المنسية شرقي الجمهورية، تظهر على شاشات الأقنية العربية. كان بعضها لا يُذكر محليا إلا لتعداد الخارجين عن القانون الذين ألقي القبض عليهم: زراعة حشيشة الكيف، سرقة سيارات، خطف وابتزاز. أرض الخارجين عن القانون، هكذا كان يصنفها “الوطن”. أتضح اليوم أنها أرض مقاومين، وضحايا حمم الموت التي ينشرها العدو بحرا وجوا.
واتضح أيضا، أن اهمالها الطويل وتجاهلها، يشمل حرمانها مما يكفي من المستشفيات، وفرق الإنقاذ، وآلات رفع الأنقاض، والبشر المسحوقين تحتها.
واتضح أن وسائل الإعلام لم تأخذها في عين الحسبان لدى توزيعها لمراسليها الذين يغطّون العدوان. أما المراسلون، فلم يتدربوا بما يكفي على لفظ أسماء قراها “الغريبة” والغائبة أبدا عن مراكز اهتمام الجمهورية.
هكذا، بقيت القرى أخبارا، تُقرأ أسماؤها خطأً، بلا صور، بلا بشر، بلا وجع..
ومثلها، أسماء مقاوميها الرابضين على الجبهة، كما المدافعين عن قراها. تبقى طيّ الكتمان إلى أن يرتقوا شهداء، تروي دماؤهم جهات الوطن الأربع، الوطن الذي ينبذهم، وهم يصرون ألّا ينتمون لسواه.
حين بدأت القرى والمدن تخلو من أبنائها، انتشروا شمالا وغربا حيث افترضوا أن الخطر سيكون أقل وطأة.
اليوم، بدأ معظمهم يعود. إذ لا مكان آمنا. ثم أن المهانة صعبة على أهل الأرض الواقعة شرقي الجمهورية.