لا يستطيع أي حاكم عربي الادعاء بأنه لم يكن يتوقع تفجّر الحرب الأهلية في العراق كنتيجة مباشرة للاحتلال الأميركي، الذي دخله بلا مقاومة تذكر كوريث للطغيان الذي قد استنزف روح الصمود في شعبه الذي لا يداني روح الإباء فيه إلا حزنه التاريخي المعتق والمتجددة أسبابه باستمرار.
بل لقد جهر أكثر من حاكم عربي بهذه المخاوف عشية الاجتياح الأميركي للعراق.. وثمة من »تنبأ« بتشليع العراق إلى ثلاث دويلات على قاعدة عنصرية أو مذهبية، وحاول تحصين سلطته في بلاده في وجه مثل هذا الاحتمال المرشح لأن يغدو واقعاً يستهلك الكثير من دماء العراقيين وكل غدهم.
كانوا يعرفون ولم يتحرّكوا لمنع الكارثة. وكانوا يتحدثون في مجالسهم عن المذابح الطائفية التي ستقع في العراق تحت عناوين سياسية مخادعة. بل إنهم كانوا يعبّرون عن مخاوفهم من انعكاسات الصراع المذهبي (الواقع حتماً) على كياناتهم وولاءات »شعوبهم« التي انتبهوا فجأة إلى أنها ليست واحدة موحدة، بل هي طوائف ومذاهب بعضها من »أهل النظام« والبعض الآخر من »أهل المعارضة« على قاعدة الانتماء المذهبي.
كانوا يعرفون أن العراق سيتشقق، لأن الطغيان قد صدّع كيانه بالفعل، ودمّر وحدة شعبه، واستدعى التدخل الأجنبي لحماية الأكراد من بطشه بعد المذابح المتكرّرة التي يمكن اعتماد »حلبجة« عنواناً لها… كذلك فهذا الطغيان قد مكّن الاحتلال من فرض ظله على الجنوب، بعد إقدامه على مقامرته بغزو الكويت، (حظر الطيران)، وإن كان ذلك لم يمنعه من تدمير تلك المنطقة بوحشية متناهية، مع التشكيك بوطنية أهلها واتهامهم بموالاة إيران وهم الذين كانوا طليعة فتحها باسم الإسلام، والكتلة العظمى في صفوف المقاتلين في الحرب التي شنها ضد إيران الثورة سنة 1980، ومسرحها الذي ناله التدمير الشامل.
كانوا جميعهم يعرفون، القريب منهم بالجغرافيا، والقريب بالموقف من الاحتلال… ولقد شاركوا الأميركيين »مجهودهم الحربي لتحرير العراق وإسقاط صدام« وهم يعرفون كيف ستكون النتائج، على الأرض… برغم خوفهم من انعكاس تلك النتائج على دولهم ووحدة شعوبهم داخلها. لكن الخوف من »الصديق الكبير« أعظم، وهكذا واكبوه وساندوه وغطوا على جرائمه، موجهين الاتهام بالنزعة التقسيمية والغرق في الطائفية والمذهبية إلى الشعب العراقي.
صارت الضحية في موقع المدعى عليها، مع وعيهم بأن في ذلك تبرئة للمحتل وإدانة قاطعة للعراقيين عموماً، بل وتسليم بتقسيم هذا الشعب، وبنزع عروبته عن »عربه« ومن ثم عن دولته.
بل إنهم يواصلون إصدار الإدانات ضد شعبه، ويتعاملون معه بطوائفه ومذاهبه، (وربما بعشائره وبطونها والأفخاذ، خاصة أنها غالباً ما تتوزع على أكثر من مذهب..).
أكثر من هذا: ان بعضهم يشكّك بعروبة »العرب العاربة« في العراق، ويتهمهم في وطنيتهم، ويلحقهم بإيران مكملاً بذلك مقولة »الهلال الشيعي« الملكية.
لقد ذهبوا أبعد مما يريد الاحتلال الأميركي. لم يكتفوا بتبرئته من جريمة تدمير العراق وتفتيت كيانه ودفع شعبه إلى الاقتتال، بل هم طعنوا في وطنية الأكثرية و»تنازلوا« عنها لإيران، في محاولة لتبرئة الاحتلال بإدانة ضحاياه!
هل هذا ما ينتظر فلسطين غداً: اتهام شعبها بأن مقاومته للاحتلال قد أوصلته إلى الحرب الأهلية، بينما لو قبل الاحتلال وسلم إليه مصيره، لكانت دولته اليوم مركز الكون!
وهل يجهل هؤلاء »العارفون« بمنازل »الهلال«، والمفضلون التعامل مع »شعوبهم« كطوائف ومذاهب ونحل، أنه بدماء العراق سيكتب مستقبل هذه المنطقة المنكوبة بوحشية الاحتلال و»جهل« حكامها معاً، وهو »فوق جهل الجاهلين« لأنهم يعرفون!
.. وعسى هؤلاء الحكام المتباهون بمعارفهم يشطبون لبنان من دائرة اهتمامهم المبارك.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان