كانت للخميس مع تجارب حياتنا طقوس اختلفت باختلاف النوع فليس كل ما كان يحق للصبيان يحق بالضرورة للبنات. اختلفت أيضا باختلاف العمر فما استحق لي في مطلع شبابي لم يكن مسموحا لي على امتداد سنوات المراهقة، وما مارست واحترمت من طقوس ومتع مؤسسة على مصروف مقرر سلفا من أهلي حلت محلها طقوس ومتع أخرى معتمدة على دخل أو دخول مقابل أعمال أو خدمات قمت بها، بمقتضاها توقف مصروف الأهل وبالتالي تحررت الطقوس والمتع ولأول مرة من سلطة الأهل.
***
أذكر أيضا أننا، سواء كنا في سن المراهقة أو الشباب، لم نختبر الطفرة عند الانتقال من مرحلة في الطقوس والمتع المتاحة إلى أخرى. لا شك أننا مررنا داخل كل مرحلة كبرى بمراحل أصغر فالمراهقة في حد ذاتها مجموعة مراحل. مثلا علمت من أمي فيما بعد أن صحة أبي تراوحت صعودا وهبوطا مع مفاجآت سنوات مراهقتي. كان قلوقا إن صح التعبير أو على الأقل هذا ما فهمت عندما فاجأتها ذات مرة، وما أزال طالبا بالثانوي، بما انتويت فعله. أشفقت على زوجها من الصدمة. تحدثنا وانتهينا إلى حال ألفة جميلة بقيت معنا حتى رحلت المسكينة عن عالمنا.
***
الخميس كان “نص يوم” دراسي. نذهب إلى المدرسة فرحين. فاليوم الدراسي قصير وقد خططنا لما بعده. لم يكن لي أصحاب من المدرسة أو على الأقل لا أّذكرهم إن وجدوا. ربما يكمن السبب في أن أمي لم تكن ترحب بالغرباء، ومنهم رفاق المدرسة وهؤلاء لم يخضعوا للفحص الذي خضع له أصحابي من الحي. غريب أمر أمي. أمي على امتداد عشرين عاما، مدة إقامتنا، لم تقم علاقة مع أي عائلة خارج بيتنا ذي الشقق الثمانية. ولكنها ومن موقعها في الشرفة المطلة على شارعين رئيسيين استطاعت أن تجمع معلومات شافية عن كل عائلة سكنت في دائرة قطرها يزيد عن الكيلومتر الواحد. لم أفلح في التوصل إلى مصادرها. أنكرت دائما أن يكون لها مصادر غير المراقبة عن بعد. أصدقائي في الحي تعرفهم بالاسم وبالسير الشخصية والعائلية واجتهادهم في الدرس والتحصيل وحسن “ملافظهم” أثناء اللعب أو الدردشة. كانت في هدوء الليل تسمع ما نحكيه فيما بيننا على ناصية الطريق غافلين عن حقيقة أن الصوت يمكن أن يصعد مسموعا حتى شرفات الطابق الثالث.
***
مع اقتراب الصيف كنا، أقصد تلاميذ الحي، ننتقل خلال الليل مع مصابيحنا الكهربية وكتبنا والكراريس إلى الشرفة لندرس حتى ساعات متأخرة. أذكر أنها لم تفوت ليلة دون أن تمر على شرفتي لتطمئن. تعرض أن تعد كوبا من الشاي وشطيرة مزودة بما تخزنه لمثل هذه الظروف. أو لمجرد أن تتأكد من أن النعاس لم يغلبني. أو، وهو الأهم كما تيقنت فيما بعد، أن شاغلا معينا عاد يشغلني عن تحصيل دروسي. أما الشاغل فهو غرفة نوم مضاءة في بيت عبر شارعنا تنام فيها وتذاكر دروسها فيها فتاة في مثل عمري كانت تفضل المشي ذهابا وإيابا في الغرفة وفي يدها كراستها. كنا في الحي نعرف أنها مجتهدة في مدرستها ومستقيمة في سلوكها وعلاقاتها. كان لأمي رأي آخر وأظن أنه سبب وجيه لزياراتها الليلية المتكررة. قالت ذات مرة، وكأن الأمر لا يعنيها، “إن (ن) متميزة خلقا وخلقا، وهي مهتمة بك ولكني أعرف أنك منشغل عن هذه الأمور بدراستك. رغينا كتير، أسيبك ترجع إلى مذاكرتك. بس أنا خايفة عليك تبرد، قوم ذاكر جوه”. عادت إلى غرفتها وتركتني أتعامل مع أمر في شكل النصيحة من أم رحيمة.
***
في الليلة التالية زارتني أمي كالمعتاد وفي يدها صينية نحاسية تعرف انني أفضلها على كل الصواني المتراصة في خزائن مطبخنا. قالت وهي تزيح احدى كراساتي لتضع الشاي والشطائر المعدة خصيصا وعيناها لا تغيبان أطول من اللازم عن شرفة زميلتنا (ن)، ” أعلم يا حبيبي أن أمها تسعي للاجتماع معك لحاجة في نفسها ، فهي كما تعلم عاشت محرومة من أن يأتيها صبي. أعلم أنها ترتاح لك لطيبة تربيتك وسمعتنا في الحي”. أزحت بوجهي بعيدا عن حيز إبصارها دليلا مكشوفا عن نيتي ممارسة كذب أبيض. قلت هامسا ” لا أظن يا أمي” .
***
غريب أمر أمي. كانت تقرأنا. مرات كثيرة كانت تقاطعني في وجود أبي حتى لا أسترسل في خطأ أوشكت أن أقع فيه. مرات كثيرة تدخلت عند أبي ليفاتحني في أمر ترددت في إطلاعهما عليه. كانت تعلم ما في النفوس وكل ما نخفيه عنها. أخفيت عنها قصة لقائي مع السيدة أم (ن). التقيتها بالصدفة المحضة على محطة الترام في أول شارع خيرت، ابتسمت لها محييا. جاءت ناحيتي ومدت يدها. قالت بصوت خفيض هل يمكن أن أراك مساء اليوم؟ أقابلك على أول طريق الشيخ ريحان لنتكلم خلال الطريق إلى مقر عملي. في العاشرة مساء اعتذرت من الأصدقاء عن الذهاب معهم إلى السينما واعدا بأن أنضم لاحقا. قابلتها ومشينا نحو شارع عماد الدين. قالت “أعرف أنك تعرف أين أعمل. لن نناقش هذا الموضوع. كل ما يهمني في هذه الدنيا ابنتي. أريد لها النجاح في دراستها كما تنجحون، وأتمني أن تساعدها في بعض المواد التي أعتقد أنها في حاجة لمن يقرأها معها. أنا أعرفك وأثق بك ولبيتكم في الشارع مكانة محترمة. فكرت في مدرس خاص خارجي ولكني أخشى من مغبة أن يدخل رجل غريب بيتي وأنا غير موجودة. هل تقبل هذا التكليف وأنا مستعدة لدفع أي مكافأة ترى أنك تستحقها؟”. قبلت التكليف بدون مقابل طبعا.
***
هناك في هذه الشقة البسيطة عرفت أن للشرف معان متعددة وله مضامين شتى، كلها كريمة. عرفت أن المظهر لا يعكس بالضرورة واقع الحياة والأفضل تجاهله عند تقييم الناس.
***
تعلمت أن أغفر قبل أن أعلم وقبل أن أقرر وقبل أن أحكم.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق