تجيء معركة الرئاسة، بتوقيتها كما بالمنحى الذي تتخذه آلياً او يدفعها إليه صراع »القوى الثانوية« ليكشف جملة من العيوب البنيوية في »الجمهورية الثانية« وليوفر، من ثم، ذخيرة ممتازة لخصومها من أهل النظام القديم كما للعناصر المتبقية من اصحاب المشروع الانقلابي الفاشل.
وإذا كانت هذه »المعركة« تفضح بوهميتها هزال الطبقة السياسية، فإنها في جانبها الجدي تقدم فرصة ممتازة للتشهير بالايجابيات، ولو محدودة، وبالانجاز الذي تحقق في عهد جمهورية الطائف، ولو انه لما يكتمل ولما يعط ثماره بعد.
لقد شكلت »مواصفات الرئيس الجديد« منطلقاً لهجوم شامل. تجاوز في اهدافه الطعن بأهلية الرئيس الحالي الى الطعن بالنظام الجديد كله، رئاسة الجمهورية، مجلس الوزراء مجتمعاً، المجلس النيابي مجتمعاً وسائر المؤسسات بما فيها القضاء والاجهزة الأمنية الخ..
لم تسلم مؤسسة، ولم يستثن واحد من القائمين بالأمر، وعومل الجميع وكأنهم »أولاد زنى« و»متسلطون« و»واجهات« تكشف بدل أن تغطي حاميها »المهيمن« و»صاحب القرار«.
لكن أبطال الهجوم لم يركزوا، بالمقابل، على الأزمة الاقتصادية بكل تداعياتها المنطقية على الصعيد الاجتماعي، ذلك لأنهم لا يملكون ولا يطرحون برنامجاً اقتصادياً مختلفاً او مضاداً، ثم انهم لا يريدون ان يصطدموا برأس المال وان كانوا قد حرضوا طويلاً وما زالوا يحرضون على عدم الاستثمار في لبنان.
الهدف كان وما زال سياسياً، و»العهد« مجرد اسم حركي لسوريا.
وهكذا فحين اعيد استخدام الاسباب الصحيحة للشكوى والتذمر من عجز الموازنة ومن تفاقم حجم الدين العام (الخارجي، والداخلي) والضائقة التي تعصف بدخول الناس، فان التركيز قد تم على عنصر وحيد: العمالة السورية في لبنان (وهذا مجرد مثال).
لم يوجه نقد جدي الى النهج الاقتصادي المعتمد، بمفاعيله الاجتماعية، ولم تتم المحاسبة على القصور او التقصير في مجالات حيوية كالتعليم والطبابة والاستشفاء وتحديث الإدارة (بعد تطهيرها)، وتجديد الحياة السياسية بقانون عصري للاحزاب والجمعيات، وقانون جدي عادل وعملي للانتخابات، وإعادة النظر بالتقسيم الإداري، وتحقيق الإنماء المتوازن الخ..
بالمقابل أُدخل التمني او التحسر على ما فات او الشعور بالاحباط كعنصر في التقييم، وأُخذ الصالح بجريرة الطالح، وتمت تعرية »العهد« من أية حسنة وأدين كل القائمين بالأمر من دون تفريق وكأن ليس بينهم من هو نظيف الكف، عفيف اللسان، وطني التوجه واستقلالي النزعة و»طبيعي« في عواطفه كما في جهده من أجل الخدمة العامة.
كأنما كل هؤلاء الذين »ادخلتهم سوريا الى الحلبة السياسية« سفهاء، اشرار، ومرتكبون، مقابل الاشراف الاطهار حتى الشهادة من أهل النظام القديم!
وضعت معايير من خارج السياسة لادانة النهج السياسي للقائمين بالأمر وليس لادانة ممارساتهم او ارتكاباتهم وهي كثيرة وخطيرة أحياناً.
وهكذا تحولت »معركة« العهد المقبل الى فرصة للنيل من العهد المنتهي خلال شهرين، وللنيل من »حمايته« السورية على وجه التحديد.
وتم توظيف الممارسات الخاطئة لبعض اركان النظام ممن يصنفون من بين »الثوابت« كدليل على افلاس النظام، وعلى انحرافه السياسي، ودائماً لاسباب سورية او بحماية سورية.
ومع ان بعض هذا الجهد يمكن ان يصب في خانة »التمديد«، (حتى لا ننسى مقولات ريمون إده)، وذلك بإلزام »المعنيين« او »حماة النظام« بالارتداد الى موقع دفاعي، فان الهدف الاساسي لهذه الحملة يتجاوز ذلك الى كشف قصور النظام عن تجديد نفسه بنفسه ومن داخل »قواه الذاتية«.
وجاءت المبالغة في توصيف الرئيس الجديد كمنقذ او كمخلص لتصب في خانة التشهير بالنظام المفلس والذي لا يستطيع ان ينجب خياراً سياسياً إلا بعملية قيصرية فيها من المخاطر أكثر مما فيها من المنافع.
ويطرح الأمر الآن وكأن الخيار محصور بين التجميد بالتمديد او التجديد بما يشبه »الانقلاب« أي باللجوء الى الاحتياط الاستراتيجي الأخير ومن خارج النادي السياسي.
ومع ان الطبقة السياسية القائمة بالأمر والتي تتصدر واجهة الحكم، لا تستحق بمجموعها ان يدافع عنها أحد، إلا ان الادانة الجماعية تتجاوز اشخاص هؤلاء السياسيين (وبعضهم مستنبت، وبعضهم أطفال انابيب)، تجيء من خارج اطر السياسة المحلية ومن خارج الواقع الموضوعي الذي يعيشه لبنان الخارج من حروبه مهشماً.
وثمة من يفسر حركة »الشارع« الآن، والتي ربما كانت تعبر عن »عواطفه« كما عن تلمسه »الغريزي« لمصالحه، بأنها جنوح نحو رئيس من داخل النظام ولكن من خارج النادي السياسي.
فالشارع يتلقى ما طرح ويطرح عليه من التكهنات والتقديرات والتخمينات واستطلاعات الرأي، الطبيعية او المصنوعة، بكثير من الحذر، لأنه يريد محاسبة المقصرين والمرتكبين والفاسدين ولكنه لا يريد، بأي حال، اسقاط النظام، ومن ثم العودة الى الحرب الأهلية.
و»الشارع« يدرك جيداً صعوبة الاوضاع في البلاد، لكنه يدرك أيضاً ان اصلاح النظام ممكن وضروري، ولذا فهو مع رئيس دستوري جديد وليس مع »الانقلاب« الذي يعيد البلاد الى الصفر.
شرطه مع الرئيس الجديد ان يكون مؤهلاً وقادراً وثقة في نهجه السياسي العام بحيث يشكل وصوله فرصة لإلزام النظام بتصحيح الخلل فيه ومن داخل النظام وليس من خارجه.
وإذا ما استقام الوضع على قمة السلطة فلا بد من ان يسقط او يُسقط بعض »الثوابت« الذين افقدوا النظام الكثير من صدقيته، وكشفوا عيوبه، وأساءوا الى سوريا بقدر ما أساءوا الى لبنان وأكثر، بدل ان يكونوا بين عناصر قوته وأهليته وقدرته على مساندة سوريا وتعزيز صمودها وليس عبئاً عليها.
و»الشارع« أصدق تعبيراً عن نفسه وعن طموحاته وعن رغباته من مجموع السياسيين الذين باتوا بأكثريتهم غرباء عنه.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان