غابت. تباعدت فترات اتصالها بالرجل الذي تعلمت على يديه ما لم تتعلمه في المدرسة والجامعة وبيت أهلها. عادت من رحلة عرضت خلالها بعض ما أنتجت من فنون الرسم وألقت بمحاضرات في عدد من أكاديميات الفنون والمعاهد المتخصصة، عادت لتجد في انتظارها رسالة من معلمها تنطق كلماتها بقلق كاتبها. هذه المرة طالت فترة الغياب وفي مثل هذه الأيام التعيسة، أيام الكورونا، ينفد سريعا صبر الناس إن طال غياب من يحبون ومن يعشقون ومن أنشأوا وربوا ورعوا وعلموا. أحد هؤلاء الناس كتب إلى تلميذته الأكثر بين تلاميذه استحقاقا للقلق يستعجل الرد على رسائله التي لا شك تراكمت خلال فترة غيابها ويعاتب عتاب من يقلق فيحنو وليس عتاب من يغضب فيقسو ويعنف.
•••
سيدي ومعلمي،
أعتذر عن القلق الذي تسببت فيه لا لرعونة من جانبي ولكن لظرف أمر به لم أحطك بعد بتفاصيله. أردت أن استجمع كل شجاعتي لاتخذ القرار المناسب بعيدا عن ضغوط، وسامحني لو كنت اعتبرت نصائحك ومواقفك معي حوافز منحازة وضغوطا ابقتني لسنوات عديدة حبيسة أمل يرفض أن يتحقق. كنت ألمح في عينيك شفقة لا أتمناها ولا أحبها. ما لمحته في عينيك كنت ألمحه في عيون جدتي وعمتي وشقيقتي الكبرى. معهن، باستثناء جدتي، تجاسرت فأعلنت عدم الرضا عن علاقات تختصرها مشاعر الشفقة. اقتنعن ولكن بعد مرور وقت طويل. حاولت معك وأظن أنني كدت أفلح.
نعم تجاوزت الثلاثين ولم أتزوج، ولا حتى اقتربت من الزواج. حملتني دائما المسئولية. كنت تتهمني بأنني لا أبذل مجهودا نحو تغيير وضعي. لا أختلط كما يجب أن تفعل كل من كانت في عمري. سيدي كنت دائما معك صريحة. لم أخف عنك واردة أو شاردة. لم تكن مجرد المعلم والمربي، كنت أيضا المستمع باهتمام والمشارك في المساحة المشتركة التي مهدناها معا لتصير موقع عملنا وساحة ملعبنا ومكان نزهتنا ومصدر إلهام مشترك لكلينا وخزينة بعض أهم أسراري. أصارحك وراجية ألا تغضب مني. أنا لم أقتنع يوما بقولك أنت والكثيرين من أهلي وأهل صديقاتي أنني مقصرة في حق نفسي وأنني يجب أن أسعى بحجة أن من لا يسعي لن يحصل على ما يتمناه. تعرف أنني لست، ولم أكن في أي يوم، من الفتيات اللائي جعلن الزواج بذاته أمل الحياة. لم أفهم المنطق وراء هذا الأمل. ثم ليتك تجبني من فضلك، لماذا تلقون العبء كله على المرأة. ألا يكفيهم أننا في النهاية نتحمل مسئولية فشل الزواج. يتهموننا عند الفشل أننا لم نقم بالواجب. يعني أننا لم نحاول أو أننا رفضنا أن نجيد التعامل مع الوحش المقيم داخل كل رجل. اعذرني إن بالغت أو أخطأت في نقل الصورة التي تحملها كل فتاة في عصرنا عن شبان نختلط بهم في الشارع أو العمل، أضف من فضلك رجال “الساحل” بمفهومه المستجد و”الجيم” الجديد علينا جميعا.
•••
صديقي الأكبر.. والأعز!
سألت نفسي وصديقاتي المقربات وأسالك، هل توقف الرجال عن الوقوع في الحب؟ أسالك بعد أن سألت شبانا ورجالا أكبر عمرا ونضجا فاستنكروا السؤال. أغلبهم قاطعني معلنين أنهم وقعوا في الحب ومرارا ومازالوا يقعون. أعود إليك وأسأل إذا كانوا حقا ما زالوا يقعون في الحب فلماذا لا يتزوجون؟ أسأل أيضا هؤلاء الذين يزعمون أنهم وقعوا في الحب ثم تزوجوا فلماذا يطلقون؟. حاولت الإجابة من تجربتي أو من تجارب أصدقاء وصديقات اقتربت منها. قد تبدو إجابتي لك ولغيرك من الرجال سطحية وربما متهورة أو ظالمة أو صادرة عن غضب وألم. عزيزي، أعتقد عن ثقة أن قلة نادرة من شبان هذه الأيام وربما الرجال من متوسطي العمر هم الذين وقعوا في الحب، الحب الذي تعرف عني أنني عرفته وعشت فيه ونعمت به. كثيرون يتعاملون اليوم مع كلمة “الحب” باستهتار وفي الغالب بخفة شديدة. كنت في السابق أستثني جنس النساء من هذه الحالة الخبيثة. اليوم لا أعفي ولا أستثني وبخاصة المنتميات لتصنيف الشباب. فالظاهرة عامة. شباب هذه الأيام، إناثا وذكورا، لم يعيشوا الحب. وإن تحدثوا عنه، وهم بالفعل يتحدثون، ولكن عن ممارسة ومشاعر أخرى زينت نفسها لهم على شكل الحب. يا إلهي، تكاثر الحب أنواعا وفصائل. هناك المحلى والأجنبي والهجين وشبه الأصلي والصحراوي والنيلي ومتوسط العمر وابن اللحظة أو الساعة!!. إن رحت تبحث عن الحقيقي مثلما فعلت أنا فستكون كمن يبحث عن إبرة في كوم من عشب جاف.
•••
يا معلمي،
يزداد الضغط علينا. مثلي كثيرات وتتضاعف كثرتنا في مجتمع أصلا متوتر وغاضب. بيننا من لم يدخل التجربة، يعترفن أنهن لم يذقن طعم الحب، الطعم الذي لا تتوقف الجدات عن اجتراره أمام الحفيدات. وبيننا من ذاقت الطعم قبل أن تمتد يد لئيمة فتنتزعه من حلقها وجسدها وعقلها ومن قلبها. وبيننا من تقلبت بين أنواعه المتعددة عساها تقع على الطعم الأصلي فأحبطت. كلنا، أو أكثرنا، عاش زمنا على أمل أن يتزوج عن حب وإلا فلا زواج. والنتيجة هي ما تراه.
اتصلت بي صباح اليوم صديقة تزاملنا في صفوف مدرستك. عرفت منها أنها تعاني من الضغوط مثل ما أعاني، وعرفت مني أنك لم تعد تقف في صف الضاغطين. قالت تعالي نزور معلمنا ونعرض عليه اقتراحا كبديل ثالث. سألتها عن البديل الذي تنوي عرضه عليك لمناقشته في حضور أخريات. تذكرها ولا شك فهي من نوع نادر. نوع شديد القسوة بنعومة بالغة. أسلوبها الساخر في الحديث والكتابة أكسبها جاذبية فريدة. محبوبة ومرغوبة بشدة ولكن برهبة. تعرف أشياء عن أي شيء ووجودها ضروري لصالح كل شيء. قوية والصدق مصدر قوتها وسبب قسوتها. صريحة وصراحتها المتطرفة أودت بزواجها.
•••
معلمي،
حدد الموعد. حدده بعد تفكير عميق. صديقتنا المشتركة سوف تعرض بديلا صعبا كان يمكن أن تشجعها وتشجعنا على تبنيه في ظروف أقل تقلبا. يا ترى هل ما زلت هذا الرجل أم تعرضت كغيرك من الصالحين لخدوش بدلت من طبيعتك، خصمت منها أو أضافت إليها ما لا نعلم مداه. سامحني إن كان الشك في جنس الرجال امتد إلى ناحيتك. صاحبتنا تبالغ. تريد أن تعلن من على منصتك أن كل النساء يتعين عليهن أن يتمردن على كل الرجال. في رأيها، ورأيها لم نتوافق بعد عليه، أن الوقت حان لتنتقم النساء مما فعله بهن الرجال عبر القرون. إنها كما تقول، وستقول في حضرتك، اللحظة الراهنة لحظة رد الاعتبار. إنه البديل الثالث والوحيد المتاح أمام النساء. يبدأن بالتمرد ويصعدن به نحو العصيان العاطفي الشامل.
•••
صديقنا الغالي،
من فضلك، حدد بالسرعة الممكنة موعد اللقاء لا أريد أن تذهب صديقتنا إلى منصة أخرى تجد عندها الترحيب والتشجيع وربما.. الاحتضان. أنت تعلم حق العلم، وأنا من هنا أؤكد بعض ما نما إلى علمك، تعلم أن الغالبية الساحقة من شباب النساء غاضبة ومحبطة، أنت نفسك كنت تردد يا ويل مجتمع اعتزل نساؤه النشاط.
أملنا الآن في رجال لم يرثوا شرف أو تركة تميزهم كجنس على جنس النساء.