يستحق سعد الحريري التهنئة على حركته النشطة في نيويورك والتي استحضرت والده الشهيد رفيق الحريري في القمة العالمية لإصلاح الأمم المتحدة، ووظفت رصيده الممتاز من أجل التمهيد لمؤتمر دولي جديد من أجل مساعدة لبنان على تخطي مصاعبه الاقتصادية التي تكاد تكون في مثل خطورة مشكلاته السياسية إن لم تكن أكثر تعقيداً.
لقد تخفف سعد الحريري من أثقال الصراعات والمماحكات المحلية التي كثيراً ما تتخذ من استشهاد رفيق الحريري مادة للاستثمار السياسي ومحاولة لتزكية الذات على حساب قضيته، وركّز اهتمامه على ما يفيد وطنه، وإن ظل ينطلق من ضرورة كشف الحقائق كاملة حول جريمة الاغتيال بالمخططين والمنفذين والمستفيدين منها.
لم يجعل همّه، مثلاً، مبارزة رئيس الجمهورية الذي »باغت« اللبنانيين برحلته التي كانوا قد شطبوها من حسابهم لأنهم قدّروا سلفاً أنه سيجد نفسه يتحرك في بحيرة من الحرج وراء جدار من العزلة، ليس فقط لأنه بعد اعتقال أركان نظامه على حافة دائرة الاتهام، بل أساساً لأنه لم يثبت نجاحه يوماً في نسج شبكة واسعة من الصداقات والعلاقات العربية والدولية، حتى في المؤتمرات التي استضافها لبنان وأعطته شرف رئاستها.
وبهذا تجنب سعد الحريري وإلى أقصى حد ممكن أن يتسبّب في إظهار لبنان منقسماً على نفسه، في أعلى مراكز السلطة كانعكاس لانقسام شعبي داخلي، وخصوصاً أن دولاً كبرى كانت »تحرّض« على تظهير صورة جديدة للبنان تخلعه من موقعه بين أهله ومن هويته، لتقدمه وكأنه وُلد من جديد، تحت رعاية دولية مطلقة تعطيه دوره ومكانته كبؤرة ديموقراطية متقدمة في منطقة يلفها الظلام والتخلف والدكتاتوريات القاتلة.
»إننا معزولون دوليا، الآن«… وفي تقدير سعد الحريري فإن »الحقيقة« حول استشهاد والده، وهو الشخصية الأهم في حياة لبنان السياسية، يمكنها أن تفك طوق العزلة وتعيد لبنان إلى دوره، بعد إنهاء عصر الاغتيالات وسائر الممارسات النافية للقانون والتي تمنع قيام الدولة..
ومع التمني بأن ينجح سعد الحريري في مساعيه العربية والدولية، لفك العزلة عن لبنان، فإن ما شهدته بيروت من تحركات وما صدر فيها من بيانات وتصريحات ومواقف لأطراف سياسية تدعي التزام موقع التحالف ولو الانتخابي مع تياره تصب في مجرى آخر تماماً، وإن كان أصحابها قد حاولوا تمويهها بادعاء أنها تخدم »فك العزلة عن لبنان«.
وليس مبالغة القول إن بعض هذه الأطراف قد حاولوا اغتيال رفيق الحريري، مرة أخرى، وهم يحاولون إعادة الاعتبار لحقبة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، برموزها كافة، بدءاً بالذين وصلوا إلى السلطة في بيروت المحاصرة على ظهر دباباتها، مروراً بالتنظيمات العنصرية التي عادت إلى السطح مرة أخرى بشعاراتها القديمة التي عنوانها الصريح قتل العرب الموجودين في لبنان، بدءاً بالفلسطينيين، مع التشديد على المطالبة بالعفو عن جميع عملاء إسرائيل والمتعاونين مع جيش احتلالها ومخابراته ضد شعبهم (حراس الأرز)، وانتهاءً بالمسؤولين المباشرين أو المشاركين في مذبحة صبرا وشاتيلا…
ولقد كان جارحاً إلى حد الإيلام السؤال الذي طرحه علينا ذلك المناضل الإيطالي الذي ينظم، في أيلول من كل عام، قدوم مجموعات من ممثلي الأحزاب والهيئات التقدمية في بعض دول أوروبا (إيطاليا، بلجيكا، ألمانيا، إسبانيا، فرنسا إلخ) للمشاركة في إحياء ذكرى ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، معنا في بيروت..
سأل ستيفانو كياريني: هل ما زلنا نستطيع أن نجيء لنحيي معكم هذه الذكرى ونضع أضمومة ورد على الموقع الذي أبيد فيه أكثر من ألف وخمسمئة فلسطيني (بينهم عشرات من فقراء اللبنانيين وبعض السوريين والمصريين)، أم أن »الجو« قد تبدل في لبنان بحيث يستحيل علينا أن نأتي إليكم مرة أخرى، لهذه الغاية؟!
(في هذا الوقت، كان أرييل شارون، بطل المذبحة، يقف على منبر الأمم المتحدة ليخطب بالعبرية، معلناً انتهاء الحلم الفلسطيني بدولة، مؤكداً أن القدس ستبقى إسرائيلية إلى الأبد، وكان الرئيس الأميركي جورج بوش يكيل مزيداً من المديح للجنرال الذي أدانته إسرائيل ذاتها بالمسؤولية عن المذبحة، فيصل إلى حد وصفه ببطل السلام..).
* * *
يعرف سعد الحريري، بالتأكيد، الفرق بين الاهتمام الدولي بلبنان وبين وضع لبنان تحت الوصاية الدولية… خصوصاً إذا كانت الذريعة »حماية لبنان من القتلة العرب« الذين اغتالوا أباه الشهيد.
ويعرف سعد الحريري بالتأكيد كم ناضل رفيق الحريري ضد »تدويل المسألة اللبنانية«، خلال دهر الحرب الحروب الطويلة، ومن قبل أن يصل إلى السلطة… و»اتفاق الطائف« هو، بمعنى من المعاني، ثمرة جهود مضنية بذلها كثيرون، بين أبرزهم رفيق الحريري، لكي يأتي الحل عربياً مدعوماً بتأييد دولي، وليس دولياً مموها بقشرة رقيقة من النفاق العربي.
لا ينفي هذا الكلام ولا يحاول التخفيف من فداحة الاخطاء التي ارتكبت خلال »الحقبة السورية«. لقد دمرت أخطاء الإدارة السورية للبنان، بالتواطؤ والشراكة مع اطراف لبنانيين أساسيين، »النموذج« الذي كان يجسد طموحاً عظيماً لدى الشعبين المتكاملين اللبناني والسوري.
لكن تلك الاخطاء، على فداحتها، لا تمنح صك براءة لخطايا الذين ذهبوا إلى العدو الإسرائيلي واستعانوا به على شعبهم.
لقد كان رفيق الحريري بدوره المميز، محلياً وعربياً ودولياً رصيداً للعروبة في لبنان.
و»الثأر« لرفيق الحريري شهيداً إنما يكون بحماية عروبة لبنان وقد تعمدت الآن بدمه… وألا تكون خسارتنا في لبنان، كما في دنيا العرب مزدوجة: نكون خسرنا رفيق الحريري وأصيبت معه عروبة لبنان.
وليس الأوروبيون أو الأميركيون هم من يطلب »الثأر« لرفيق الحريري بكشف قتلته، وإنما نحن أهله، لأن من قتله إنما استهدف عروبته ودوره في حماية عروبة لبنان.. أي في حماية لبنان.
وسعد الحريري الذي يتقدم الآن، بقوة دم الشهيد، إلى موقع التأثير تمهيداً لأن يكون في موقع القرار، إنما رصيده من وطنه ومن عروبته، قبل الدول بعظماها والكبرى، غرباً وشرقاً.
نحن، في لبنان ودنيا العرب، أهل الفقيد. وبهذه الصفة نطالب بالحقيقة ونريدها، قبل الأميركيين والفرنسيين وسائر الغرب… لأن في الحقيقة حماية لعروبتنا، حتى لو كان القتلة يحملون هويات أو ملامح عربية.
وإذا كانت الإدارة السورية للشأن اللبناني قد تورطت في اخطاء جسيمة أدت إلى إخراجها من لبنان بطريقة لا تليق بعرى الأخوة بين الشعبين المتكاملين، في مصالحهما قبل العواطف، فإن خروجها لا يشكل صك براءة لكل من تآمر على وحدة لبنان أو هويته العربية بالتعاون المباشر مع جيش الاحتلال الإسرائيلي.
فهؤلاء الذين كانوا أعداء لرفيق الحريري في حياته، ليسوا بأي حال حلفاءه بعد استشهاده، وليس مسموحاً بأن يستغلوا الحزن عليه لكي يتسللوا إلى »سلطة العهد الجديد«، بعدما كافح طويلا لطردهم خارج الهيكل، نتيجة تورطهم في ما يصعب نسيانه أو غفرانه، خلال وجوده في السلطة أو حتى وهو خارجها.
إن الحقيقة هي مطلب الحريصين على عروبة لبنان ودوره في محيطه العربي أساساً، وفي مواجهة عدوه الإسرائيلي بأطماعه المعلنة.
… و»ليست النائحة الثكلى كالمستأجَرة«.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان