يدخل سعد الدين رفيق الحريري سرايا الحكم مظللاً بطيف أبيه الشهيد الذي جدد بناءها وأضاف إليها في الشكل وفي المضمون، قبل ان يطرز بوابتها بالحكمة العربية الخالدة التي يحتاج إلى هديها أي حاكم وكل حاكم: «لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك».
ولسوف يجد سعد الحريري نفسه محاصراً بالظل العالي لوالده الراحل شهيداً: كيفما التفت هناك شيء من رفيق الحريري، في العلاقات العربية والدولية، كما في العلاقات مع اقطاب اللعبة السياسية المحلية من أهل اليمين كما من المتحدرين من اليسار، من أهل المقاومة والرصيد الممتاز لجهادها من أجل تحرير الأرض والإرادة، كما من الذين كانوا يقولون ان «قوة لبنان في ضعفه» حتى كادوا يضيعون لبنان أرضاً ودولة وشعباً عنيداً!
ولن يستطيع سعد الحريري ان يكون صورة طبق الأصل عن أبيه، وذلك في أي حال ظلم له.. كما لن يكون امتداداً لأبيه، فذلك مستحيل، فلا الظروف هي الظروف ذاتها، ولا البلاد هي البلاد، ولا من هيأ للأب ان يدخل متكئاً على كتفين عربيين عاليين في سوريا والسعودية، في لحظة دولية محددة، موجود ليهيئ للابن ما أمكن توفيره للأب مما يدخل في باب الاستثناء والخروج على القاعدة، في الشكل كما في المضمون.
لقد جاء والده إلى الحكم محمولاً على تجربة عريضة في الأعمال والعلاقات وبناء الصداقات والنجاح في الوفاء بالتزاماته، وقدرته الاستثنائية على الصبر والتحمل ونسج العلاقات مع أصحاب القرار بدأب النملة، والتقدم لأداء المهمات الصعبة والتي عجز سابقوه ومنافسوه الكثر عن انجازها، بهمة المغامر.
انه سعد الدين رفيق الحريري وليس رفيق بهاء الدين الحريري، بل وليس مطلوباً منه ان يكونه…
وليس سعد الحريري هو وحده «صاحب الدم» في جريمة اغتيال والده، بل ان اللبنانيين جميعاً، ومعهم العرب جميعاً، هم «أصحاب الدم»، شركاء له متضامنون معه لأن العدالة حقهم جميعاً.
والعدالة مطلب وطني وقومي وليست مطلباً عائلياً فحسب، بغض النظر عما رافق استيلاد المحكمة الدولية من التباسات وأغراض متباينة.
كان رفيق الحريري صاحب مشروع عرف كيف يتقدم به ويعمل له، ودائماً بالاتكاء على رعاته في دمشق والرياض، وعلى شبكة علاقاته التي كانت تتوسع يومياً في الداخل، حتى جاءت اللحظة السياسية المناسبة فأقر الجانب السياسي منه في الطائف (السعودية) برعاية عربية (الجزائر والمغرب) تضمر تأييداً أوروبياً، ومساندة أميركية لوثيقة وفاق وطني أقرت مسودتها في دمشق، وكذلك تعديلاتها، ثم وفرت الظروف الدولية للقيادة السورية ان تكون المشرف والراعي والمسؤول عن التنفيذ.
ولقد عرف رفيق الحريري كيف يسوق «مشروعه» عند الأضداد والخصوم في الخارج، مفيداً من مناخ عربي ـ دولي استثنائي وفره غزو صدام حسين الكويت، فكان «السوري الأول» و«السعودي الأول» كما كان مستعداً لشراء التفاهم مع أوروبا والغرب عموماً (عبر فرنسا جاك شيراك)..
بالمقابل فقد أدرك رفيق الحريري خطورة دور المقاومة (وهو ابن صيدا عاصمة الجنوب، من قبل ومن بعد) والكفاءة الاستثنائية التي أكدها «حزب الله» بدماء شهدائه في مواجهة العدو الإسرائيلي، والقدرات المميزة في أداء الواجب المقدس من أجل تحرير الأرض، فبادر ونجح في نسج أمتن علاقات التفاهم الذي تطور إلى صداقة دافئة مع قيادته بشخص الأمين العام السيد حسن نصر الله، مما جعله شريكاً في النصر الأول الذي تحقق في (تفاهم نيسان ـ 1996) والذي يسجل للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد دوره الاستثنائي فيه كإنجاز تاريخي، ثم في النصر النهائي بإجلاء المحتل الإسرائيلي في 25 أيار 2000، والذي نستذكر معه دور الرئيس الراحل الياس الهراوي ورئيس المجلس النيابي (الدائم) نبيه بري أطال الله عمره.
ان هذا الرصيد المميز للوالد الكبير الراحل لن ينتقل آلياً إلى الرئيس الشاب الذي يباشر تجربته السياسية في الزمن الصعب، فهو ليس إرثاً عقارياً، ولا هو بعض المقتنيات العائلية الخاصة: انه حصيلة تجربة غنية بالصح والغلط فيها، يفيد منها «الوريث» بقدر طاقته على استيعاب دروسها واستكمالها بالإضافة إليها وليس بالاتكاء على وهجها.
لقد اختلف الزمان، محلياً وعربياً ودولياً.. والرصيد العظيم الذي يحفظه اللبنانيون جميعاً، وبغير تحزب أو تعصب، للأب الشهيد يفيد سعد الحريري ليدخل من الباب العريض المتوج بالحكمة الخالدة «لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك»،.. لكن ما بعد الدخول يتعلق بسعد الحريري نفسه: برنامجه للحكم الذي سيصاغ عبر جدل الاتفاق والاختلاف مع «الحلفاء» و«الخصوم» (وقد باتوا الآن سابقين).. وعبر التباين في المصالح والمواقف، في الرأي المباشر وفي الارتباطات، في الطموح وفي التحديات، والأهم في التوازن السياسي داخلياً، وفي القراءة الدقيقة لخريطة التحولات في المنطقة، بالتحالفات والمخاصمات والتحديات وأخطرها التحدي الإسرائيلي المفتوح والذي لا يمكن للبنان التنصل من مسؤولياته إزاءه بأية ذريعة، ولا بد ان يتحمل الحكم أعباء واجبه الثابت مستنداً إلى تجاربه العظيمة والمكتوبة بدماء شهدائه من رجال المقاومة والجيش ومواطنيه الذين دفعوا ضريبة الانتماء الوطني وما بدلوا تبديلاً… وموجع ان نسمع، بعد كل تلك التجارب المكتوبة بالأحمر القاني من يستعيد مقولة «قوة لبنان في ضعفه» التي ثبت انها نكتة سمجة في الماضي، وإهانة فادحة اليوم للنصر المؤزر الذي حققه لبنان على العدو الإسرائيلي، في مقاومته كما في حرب تموز 2006.
[ [ [
خلاصة القول ان سعد الدين الحريري ليس هو رفيق بهاء الحريري، ولا يقدر ان يكونه، وليس مطلوباً منه ان يكونه.. بل ان واجبه ان يكون هو بذاته لا بأبيه الشهيد، وان يعتمد قاعدة: ان منتهى الفصل هو منتهى الوصل.
انها تجربة جديدة يتمنى لها اللبنانيون جميعاً، والعرب جميعاً، والدول جميعاً، النجاح، ولا يستطيع لبنان ان يتحمل فشلها، بل ان الفشل سيكون جريمة وطنية عظمى يتحمل مسؤوليتها الأطراف والقوى التي جمعت في الائتلاف العريض الذي تضمه هذه الحكومة ـ السابقة والذي يضم إلى الأحزاب والهيئات والقوى السياسية رئيس الجمهورية، لأول مرة في تاريخ هذا الكيان بنظامه الفريد.
ان سعد الدين الحريري هو الآن رئيس حكومة لبنان، كل لبنان.
ولقد جاء ليحكم بالتوافق… وقد أوصله إلى السدة التوافق الذي بدأ عربياً (سوريا ـ السعودية) ثم تجسد محلياً، مع دعم دولي مفتوح، وفي ظل ظروف عربية بائسة عنوانها المحاولات الإسرائيلية لشطب فلسطين من الخريطة والذاكرة، في ظل انقسام عربي ـ دموي غير مسبوق باتساعه وبدمويته الذي يمتد من اليمن إلى السودان مروراً بالعراق المصلوب على خشبة الاحتلال الأميركي والمولد لكل أنواع الفتن الدينية والطائفية والمذهبية والعنصرية.
لقد وصل سعد الدين الحريري إلى سدة الحكم، بالتوافق الوطني ـ العربي،. لا أتت به الدبابة الأجنبية، ولا أتى به الانتصار الكاسح على «الخصوم».. ومن كانوا قد صنفوا خصوماً (بلا أسباب جدية للخصومة) هم اليوم شركاء وضمانات للنجاح. أما متحفظو المزايدة والممتنعون بالمناقصة فلم يكونوا يوماً حلفاء للأب الشهيد، ولن يضيفوا كثيراً إلى قدرات الرئيس المتقدم إلى الحكم مجللاً بكل عوامل النجاح.. وأخطرها اجماع اللبنانيين، ومعهم كل حريص على استقرار لبنان من أهله العرب.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان