في مثل هذه الأيام من ربيع العام 1974 كنا ننام واقفين بين ”روليهات” الورق في مطابع دار صنين، عند محطة غراهام، مقابل السفارتين الفرنسية والسويسرية، وغير بعيد عن الجامعة الأميركية في بيروت.
كانت التجربة مثيرة لصحافي تربى في المجلات الأسبوعية أن يتصدى لإصدار جريدة يومية، فيكتب كل يوم، وفي أكثر من مجال، وبسرعة حركة العقارب في الساعة، وأن يحقق ”توازناً” بين السرعة والاتقان وبين القيام بأعباء استقبال المهنئين والمستكشفين والمحققين والمدققين في كيف، ومن، ولماذا، وبماذا، وإلى أين، ومن يقف خلف الخلف، وماذا تخفي الواجهة، وهل تطول الرحلة المغامرة أم أنها لن تختلف عن سابقاتها ممن خاضها صحافيون أغرتهم القروش في أيديهم بأن يجربوا حظهم في الارتقاء إلى مرتبة ”صاحبها” وعدم الاكتفاء بمرتبة رئيس التحرير أو المدير المسؤول؟
كان إبراهيم عامر، القادم لمساعدتنا بخبرة أربعين سنة أو يزيد، يتابع حركتنا من قلب هدوئه الشامل، مرسلاً خلفنا نظرات عينيه مستطلعة توزعنا واستغراقنا في انهماكات كثيرة في الوقت عينه.
وجاءت لحظة ”ضبطني” فيها جالساً وحدي إلى طاولة التحرير الجماعي، ”الديسك”، فاقترب من الباب يقفله، قبل أن يعود إلي ليقول بلهجة ”الأب” المشفق وود الصديق: ممكن تسمعني دقيقة؟ ممكن تهدأ لحظة. يا ابني مالك هايص كده، وموزع نفسك على خمسين جبهة؟ كل ما في الأمر اننا نصدر عدداً جديداً من صحيفة ستصدر كل يوم، ويصدر مثلها آلاف الصحف في أربع رياح الأرض.
كنت قد هدأت تماماً، مأخوذاً بنبرة الصدق وعمق الخبرة في كلماته… وسمعته من داخل ذهولي يضيف فيقول:
يا ابني نحن لا نخترع الصحافة. الصحافة اختراع عمره الآن بضعة آلاف من السنين. لا يجب أن يكون همك صدور الصحيفة، وإنما ماذا تقول الصحيفة، وماذا تحقق لنفسك وللآخرين الذين تتوجه إليهم فيها وعبرها.
عدت أتأمل الوجه الذي تظلله ابتسامة دائمة تنضح بمرارات عميقة وبميل غريزي إلى المرح، وبآثار ثقيلة للأيام الحافلة بالشقاء، وإن كانت العينان الواسعتان تفضحان العشق العظيم للحياة: أمامك عصارة تجربة سياسية مهنية غنية، وحقك أن تتعلم منها
كنت أحب العمل. لكن إبراهيم عامر جعلني أستمتع بالعمل.
وكنت عاشقاً للكلمة، متعلقاً بالصحافة كأشرف مهنة ابتدعها الإنسان لخدمة أهدافه النبيلة. ومنحني إبراهيم عامر ”الحيثيات” التي سوف يرتكز عليها يقيني القديم.
ولأنه إنسان عظيم فقد غدا إبراهيم عامر، الآتي من مصر ليكون مراسلاً في بيروت لجريدة يوغسلافية، ”الأب الروحي” لأسرة ”السفير” الوليدة.
صار، وبسرعة، أستاذنا في المهنة، ومرجعنا في شؤون الثقافة العامة، ومدرب الأجيال الجديدة من الصحافيين والكتّاب الذين تخرجوا من الجامعة بشهادات لا يعرفون كيف يوظفونها لبناء مستقبلهم.
ثم انه، وبعفوية خارقة، صار قاضي الغرام، وملاذ الشباب والصبايا الذين عجلت الحرب التي لم تتأخر في التفجر، في طرح الأسئلة الخطيرة عليهم: ماذا نفعل؟ هل نبقى أم نرحل؟ هل نستمر في المهنة، وما هو مستقبلها ومستقبلنا فيها؟
كانت ”السفير” قد استقبلت كوكبة من المتخرجين الجدد، جاؤوا تربط بينهم صلات ود واستلطاف، سرعان ما عمقتها الزمالة والعشرة والإلفة والجو النظيف، فإذا بـ”السفير” تحتضن أكثر من قصة حب، وإذا بمكتب إبراهيم عامر يتحول إلى عش تتلاقى فيه طيور الحب، وأحياناً إلى بئر للتنهدات والدموع…
وكان ”عم إبراهيم” أو ”أبو خليل” أو ”جدو” يستقبل الحالات جميعاً ويعالجها بصبر وأناة وأبوة كاملة، من دون أن تتوقف يده عن الكتابة، أو عن تبديل عنوان، أو عن تصحيح كلام الصورة، أو عن تسجيل ملاحظات على ”بروفة” الصفحة قبل إرسالها إلى التصوير.
كانت للحب ساعاته، وللطرب ساعاته، وللظرف والفكاهة والتسلية ما تبقى من الوقت بين إقفال الجريدة وظهور النسخة الأولى.
للمهنة الأوقات جميعاً. ولكنك داخل المهنة تستطيع أن تمرح وأن تفرح وأن تعيش لحظات من السعادة الخالصة، وأن تحترم الإنسان فيك فتعطيه حقه.
وكل مَن كان في ”السفير”، آنذاك، ما زال يحتفظ في وجدانه بذكريات ذلك اليوم البهيج في اللبوة، بضيافة زميلنا أسعد حيدر.
منذ لحظة الوصول صباحاً وحتى المغادرة مع هبوط أستار الليل، كان ”العجوز” إبراهيم عامر أفتى شباب ”السفير”، أكثرهم حيوية وانطلاقاً، أعظمهم عشقاً للحياة واستمتاعاً بمباهجها الصغيرة..
راقص جميع الصبايا، ورافق الذين دبكوا، وتحدى ”عناترة” الشباب وهو ”يرقص بالعصا”… ولم يغفل عن مهمته وهو ”كيوبيد الأصلي”، فصالح المتخاصمين من الأحبة، ووصل بين مَن يمنعهم الخجل من المبادرة والقيام بالخطوة الأولى.
جاء كل ذلك العالم الذي اسمه إبراهيم عامر: العامل في مصانع كفر الدوار، ومنظم العمال في المحلة، والمناضل الشيوعي في القاهرة، والمعتقل بين طابور المعتقلين من الشيوعيين، المحاور من خلف باب الزنزانة ”الخصوم” من الإخوان المسلمين، ثم المدافع المجيد عن ثورة 23 يوليو وعن إنجازها العظيم ”الإصلاح الزراعي” في كتاب لا يزال حتى اليوم المرجع الأهم والأكثر دقة وفائدة.
غنى لسيد درويش، ثم غنى مع الهازجين بعض أغاني الفولكلور اللبناني، وحين دقت ساعة الوجد، مع القيلولة، وتلطى الأحبة خلف أشجار الصنوبر والسرو، استذكر ابراهيم عامر مع ”عجائز” آخرين بعض أنغام التانغو، تمهيداً للوصول إلى فيروز ثم الرسو في مرفأ أم كلثوم على بحر الحب.
* * *
لا يغيب عنا طيف إبراهيم عامر.
إنه حاضر في كل ما يتصل بالمهنة: أصولها وضرورة التطوير، قواعد العلاقة بين الصحيفة (الكاتب) والجمهور.
وهو حاضر كإنسان في وجداننا، يرشدنا ويأخذنا بعيداً عن الأحقاد والضغينة الى آفاق الود المفتوحة.
وهو تحية الصباح في ”السفير”، ننحني له ونحن ندخل من بابه إلى قاعة الاجتماعات..
وهذه تحية إضافية للإنسان الكبير والصحافي الأستاذ الذي غادرنا قبل عشرين عاماً محترقاً بنار الحرب/ الحروب الأهلية/ العربية/ الدولية في لبنان.
سلاماً يا أبا خليل..