كان طلال سلمان (1938-2023) الذي فارق الحياة أمس الجمعة عن 85 عاما آخر المؤسسين في الصحافة العربية، هو ذلك الرجل العصامي الحالم الذي دخل عالم الصحافة في خمسينات القرن الماضي، حاملا أحلام العروبة والقومية والهم الفلسطيني قبل أن ينجح عشية الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) في إطلاق واحدة من أهم التجارب التي طبعت مسيرة الصحافة اللبنانية والعربية خلال العقود الماضية، وهي جريدة السفير التي صدر عددها الأول في 26 مارس/ آذار 1974 متضمنا مقابلة مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات واستمرت لمدة 42 عاما قبل أن تتوقف عن الصدور في آخر 2016.
من خلال شعاريها “صوت الذين لا صوت لهم ” و”جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان” رسمت “السفير” ملامح هويتها وانحيازاتها المرفقة بصريا بعلامة الحمامة البرتقالية التي تحيل إلى برتقال فلسطين وتحمل رمزية بلاد الشام، وكرّست تناغما دلاليا لغويا بصريا طبع انطلاقتها ووسم جزءا كبيرا من تجربتها.
كانت مختبرا للتعبير الفلسطيني والعروبي واليساري ومصنع إنتاج لعدد كبير من التجارب الرائدة التي كان لـ “السفير” الفضل في إبرازها وتظهيرها، في موازاة خلق أجيال من الصحافيين الشباب الذين ولدوا في مكاتبها وتمرّسوا على العمل الصحفي في مختبراتها وأصبح الكثير منهم نجوما لامعين في عالم الصحافة والأدب.
في قلب كل ذلك الزخم الكبير كانت ملامح المؤسّس تظهر وتتجلّى، وقد يكون لافتا أن كل المؤسسات الصحافية ومع مرور الزمن تشرع بالابتعاد عن ملامح مؤسّسيها وصولا إلى الاستقلال التام عنهم، لكن جريدة “السفير” بقيت في بنيتها وفي صيغتها تحمل بصماته وتتأثّر بتحولاته وانقلاباته، فكانت على الدوام جريدته التي تعكس رؤيته ومفاهيمه.
ذلك التحوّل في المواقف والانحيازات الذي طبع المرحلة الأخيرة من عمر “السفير” وذهب بها في اتجاه النطق باسم ما يعرف باسم “تيار الممانعة” كان بمثابة النهاية المبكرة التي اختار طلال سلمان بإرادته الذهاب في اتجاهها، واضعا تاريخه الشخصي وتاريخ صحيفته أمام خطر تبدّد يجبرنا في لحظة وداعه على قياس ما كان على ما استجد.
إذا كانت الأمور تقاس بخواتيمها فلا مفر من إبداء الأسف على ما آلت إليه “السفير” وعدم قدرتها على الاستمرار في عصر الصحافة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن ذلك لا يعني إنكار تاريخها وأثرها ودورها، بل قد يكون وضعهما في مقارنة ما يعيد بعض التوازن إلى تلك التجربة ويجعل من النوستالجيا والرومانسية مدخلا يخفف من الانتقادات التي طالت الصحيفة إذا شئنا مقاربة الأمور بعقلانية صافية.
طلال سلمان بين عنوانين
ظلّ طلال سلمان طوال حياته صحافيا، وحتى بعد إغلاق “السفير”، بقي مواظبا على كتابة مقالات افتتاحية في موقعه الإلكتروني في زاوية حملت عنوان افتتاحيته الشهيرة “على الطريق”، كما كان قد ابتكر شخصية “نسمة” التي يطل من خلالها بنوع من الرومانسية والعاطفية على ما يراه من مشهد عربي وعام وبقي يكتب من خلالها.
قبل “السفير” عمل طلال سلمان في جريدة “النضال”، وعمل مراسلا صحافيا في “الشرق” ومحررا وسكرتير تحرير في مجلة “الحوادث” ومديرا للتحرير في مجلة “الأحد” قبل أن يؤسّس مجلة “دنيا العروبة” في 1962 وهي تجربة لم يتجاوز عمرها الستة أشهر، انتقل بعدها إلى مجلة “الصياد” ومجلة “الحرية” الأسبوعية التي كانت تعبّر عن توجهات القوميين العرب، قبل أن يطلق جريدة السفير.
كان الإطار المهني الذي حكم بنية “السفير” محكما في شكله وصياغته وخصوصا في عملية بناء العناوين التي كانت تنتقل من الجريدة إلى الشارع والفضاء العام ويعاد رسمها على الجدران وتسم مراحل وتعبر عن نضالات وتوجهات.
مرآة المدينة
كانت الصحيفة تقدّم نفسها للقارئ العربي بصيغة تتكثف في عنوان الصفحة الأولى وفي عنوان بصري يطبع الصفحة الأخيرة مع كاريكاتير ناجي العلي. انطوى العنوان البصري مع اغتيال العلي في العام 1987 ليبقى العنوان الأول شاهدا على مرحلة كانت السفير فيها ملتصقة فعلا بشعارها الذي يعنى بأن تكون “صوت الذين لا صوت لهم”.
أحد عناوينها الشهيرة إبان اجتياح بيروت عام 1982 “بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء” شكّل معلما على تاريخ نضال المدينة ودور الصحافة في رفع ذلك النضال إلى واجهة الحدث ووضعه أمام أعين العالم بأسره. كان التوجّه الذي يرسمه ذلك العنوان حريصا على تصوير بيروت التي تحترق في مواجهة الاحتلال بوصفها مدينة للعرب والعالم، يقدم صمودها دليلا على أهمية خيار المواجهة ودوره في تفكيك معادلات القوة والتفوق، وبذلك كانت “السفير” قلعة المدينة الحصينة وجدارها الأخير، وكان ذلك العنوان الصاخب أبرز العناوين في محطاتها التي اتسمت بوضوح التوجّه والانحياز، والصدق في الدفاع عما كانت تنادي به من شعارات.
تلك المدينة التي احتضنت المقاومة الفلسطينية التي تسبّب الاجتياح بإخراجها من لبنان لم تعد كما كانت، وبدأ طلال سلمان يبني تحوّلاته انطلاقا من تعريفات مختلفة للنضال، محاولا إقناع نفسه وإقناع الآخرين بأنه لا يزال في الموقع نفسه وأن مواقفه ليست سوى تنويع على المقام نفسه، فكان الموقف من الحرب ضد المخيمات في الثمانينات بعد الاجتياح بفترة منحازا ضد الفلسطينيين، وكذلك كانت بيروت التي اجتاحتها جحافل حزب الله في غزوة 7 مايو/ أيار 2008 مدينة غريبة في نظره.
الثورة السورية
اختبار الثورة السورية فجّر عناوين “السفير” ودفع بتجربة طلال سلمان إلى الوقوع في فخ النهايات الدرامية. تمثل مشهد تدمير حلب بعنوان من قبيل “حلب تعود إلى حضن دمشق” كان محاولة لتغطية مشهد المجزرة المروعة التي كانت تجري في سوريا، والتي اختار مباشرة أن يكون طرفا فيها، بظلال عروبة لم تستطع الخروج من الملامح البعثية.
شاء أن يكون لاعبا في السياسة من خلال دور الصحافي، طمعا في أن يكون صالحا للاستثمار فيه وفي مشروعه الذي كان قد بدأ يفقد وهجه مع شحّ التمويل وهجرة الأقلام البارزة وأصحاب الخبرات من “السفير”، وفتح الباب أمام مجموعة من الكتّاب الجدد الذين لم يصنعوا في مختبرات الصحافة ولكن في أقبية الأجهزة والسلطات.
بدا حاضر الصحيفة يدين ماضيها وصار يصعب نسبها إلى نفسها، لأنه وبعيدا عن المواقف السياسية فإن ما شرع بالتفكّك قبل كل شيء هو البناء المهني الذي كان يتسم بالمتانة، وكأن هزالة المواقف جرّت اللغة والمشروع إلى مجالها فحلّت الهشاشة في البنيان الأسلوبي وفي الشكل قبل المواقف والتحيزات.
تحولت تلك الصحيفة التي كانت مدرسة في السياسة والثقافة إلى مجال صحراوي لا ينبت فيه شيء سوى مان كان من جنسه.
الانتقال من الاعتراض والثورة إلى صفوف الممانعة والتعبير عن مشروع حزب الله اخترق كل صفحات “السفير” وشرع بتدميرها، فباتت تنشر ما لم يكن ممكنا تخيل أنها قد تقدم على نشره سابقا، وكانت محاولات إسقاط لغتها السابقة ورصانتها المعروفة والسياقات المهنية التي راكمتها وأسستها على ذلك الخطاب المستجد والطارئ، والذي كان يمتلك لغته وأساليبه مقتلا مبكرا للصحيفة.
ولكن كل هذا لا يؤدي بنا سوى إلى مضاعفة الألم. كان الرجل قد حاول أن يضمن استمراريته بالركون إلى تلك المواقف، وهو ما لم يكتب له النجاح. بقي الصحافي يحتل صفات سلمان ويكوّن سيرته. لم تنقذ الممانعة سفير طلال سلمان. فقد باتت تمتلك صحيفتها ولغتها. قد يكون ذلك الفشل في استجرار تمويل من الممانعة بعض مما يشهد لسلمان وعليه. انحيازه المستميت الى الممانعة في آخر أيامه لم يستطع أن يلغي المسافة بين ما يكونه وبين متطلبات الدور. صحيفة “الأخبار” التي تأسست على يد مجموعة من “السفيريين” السابقين كانت النموذج الذي لا يستطيع مجاراته أو التفوق عليه أو الإقامة في حدوده، فعلى الرغم من استعداده لتسويات تخدم استمرار صحيفته، بقي محتفظا بملامح وجه كانت قد نحتته محاولات اغتيال كان سببها مواقفه الصحافية الجريئة والمناهضة للسلطات.
يرحل طلال سلمان محتفظا بسيرته ومثقلا بنهاياتها التي رسمت بمأساويتها معالم في طريق نهاية الصحافة في لبنان.
موقع المجلة