أخيراً وجد رياض نجيب الريس »المرتبة« التي يرتاح فيها وإليها: آخر الخوارج…
ولقد اختار، بوعي، أن يسحبها على حياته جميعاً، من الولادة في دمشق، لأب حموي اقتحم السياسة من باب الصحافة فلمع فيهما معاً، وأم طرابلسية حاولت تعويض الغياب المبكر لرب الأسرة في البيت كما في العمل العام، في انتظار أن يكبر الفتى ويكمل الدرب والمهمة، لكن التطورات السياسية عدلت المسارات جميعاً…
ولأنه اختار أن يكون »آخر الخوارج« فقد استعاد رياض نجيب الريس سيرته الذاتية، وتجاربه المهنية، بإيجاز مقصود يبتر الرواية بتراً في بعض الحالات، وبتفصيل يتيح له أن يسدد حسابات قديمة مع بعض من عمل معهم أو عملوا معه، وبعض من صادقهم أو صادقوه ثم حدث الافتراق وفي نفس كل طرف كلام لم تسمح الظروف بقوله في الوقت المناسب.
وكعادته في كل ما كتب وقال رياض نجيب الريس، فإنه في روايته لنشأته ولتجاربه المهنية اجتهد في ابتداع »ربط نزاع« مع العديد من رفاق العمر، صحافيين وكتاباً وشعراء ونقاداً، فغمز من قناة هذا، وأومأ إلى ذاك بطرف عينه شزراً، ونكش بعض القبور بلمسات خفيفة لكنها تكفي لجيش من علامات الاستفهام، فلم يغفر ولم يرحم ولم يكبر على جراحه، وإنما ظل إنساناً طبيعياً يحب ويكره، ويحكّم رأيه (وعاطفته) في كل من عرف من البشر والعقائد والأفكار والأوطان والحكام…
تخيم رنة يأس أو قنوط على تجربة رياض نجيب الريس الغنية، كمحرر ومدير للتحرير ومندوب متجول، ثم كمقتحم لعالم الغرب بأول مطبوعة عربية جدية (»المنار«) التي تم له أن يؤسسها في لندن، التي فيها درس وتعرّف إلى الصحافة كمؤسسة فاعلة ومؤثرة في مجتمعها في ما يتجاوز »السياسة« بالمعنى المألوف، عربياً، إلى الاجتماع والاقتصاد والصحة والعلم، فضلاً عن صراع المصالح التي تنشئ الأحزاب وتصعد بها إلى الحكم أو تسقطها من دون دبابات ومواجهات بالسلاح بين رفاق السلاح.
ثمة نوع من إعادة الاعتبار إلى الأسر والعائلات وتقاليدها، وإلى أهل السياسة أيام كانت السياسة مجالاً للعمل العام مفتوحاً أمام المتقدمين إليه بروح المناضل لا بتملق المنافق… وفي هذا السياق يستعيد رياض بعضاً من سيرة أبيه نجيب الريس الذي خاض المعترك السياسي من باب الصحافة، قريباً من »الكتلة الوطنية« التي كانت تضم وجوه العمل الوطني القومي، متصدياً لقوات الاحتلال الفرنسي، بما كفل نفيه لسنوات، على فترات، من دون أن يكل أو يمل أو يغيّر خطه، وكانت المكافأة أن انتخبه »الدمشقيون« نائباً، هو »الحموي«، وإن احتلت جريدته »القبس« المرتبة الأولى حتى رحيله…
تمتد الرحلة من دار الصياد إلى »المحرر« مع الزميل الذي غادرنا مبكراً هشام أبو ظهر، ثم إلى »النهار« التي كان مؤسسها جبران تويني صديقاً كبيراً آخر للوالد، فإلى »الحياة« التي دخل إليها متردداً لاختلاف في النهج السياسي، فإلى »النهار« مرة أخرى بعد اغتيال الزميل الكبير كامل مروة حتى انفجار الحرب الأهلية.
يروي رياض تجربته الفريدة في إنشاء دار للنشر ومكتبة عربية في لندن، ثم حكاية الجريدة الأسبوعية التي أصدرها هناك ولم تعمر طويلاً، »المنار«، ويستذكر الزميل الكبير الراحل نبيل خوري وتجربته معه في »المستقبل« في باريس، وكيف أوقفها لتبدل في سياسة المجلة…
ويختم باستذكار تجربته في »الناقد« ثم في »النقاد«، عارضاً لعلاقاته وصداقاته ومسامراته مع كوكبة من الشعراء والكتاب والأدباء الذين اقتحم ناديهم »بفضوله« كما بمحاولاته الشعرية، والأهم بنهمه إلى المعرفة وتذوقه الشعر وميله إلى أن يكون بين »الغاوين«… ثم عاد إليهم بلسان النقاد وأقلام الهواة الذين يتملكهم الميل إلى تحطيم »الكبار« كأسرع وسيلة للشهرة، على طريقة »كاسر مزراب العين«!
لعل مصدر اليأس في »أشياء من سيرة صحافية«، التجربة التي أراد رياض نجيب الريس إنجازها، وصرف زمناً في متابعتها، واصطدم بكل أصناف المعوقات التي يمكن تخيلها… وتلك التجربة كانت تتمثل في إصدار صحيفة تجسد شعاراً قديماً لجريدة أبيه وهي »جريدة واحدة في بلدين«، وهو الشعار الموازي ل»شعب واحد في دولتين«: جريدة تصدر في دمشق وبيروت معاً وتكون جريدة لبنان وسوريا في آن…
كتاب رياض نجيب الريس الجديد »آخر الخوارج«، ليس سيرة ذاتية تماماً، وليس تأريخاً لمرحلة تماماً، بكل ما حفلت به من صراعات عربية عربية، وصراعات عربية دولية،
إنه أشبه برسالة وداعية، مع أن رياض نجيب الريس لا يمكن أن يتوقف عن الإنتاج، وإن كان في كل مرة يبتكر له شكلاً جديداً ونمطاً جديداً يقتحم به عالماً مختلفاً من الكتاب والقراء.
لقد أضاف رياض نجيب الريس، الذي طالما أحب أن يكون »الأول« بين أقرانه، وسعى جاهداً لأن يكون »الرائد« و»السابق« و»المتميز« بين زملائه وأبناء جيله من أهل الصحافة خصوصاً وأهل الثقافة (والنشر) عموماً، لقباً ومرتبة جديدة، وهما يفرحانه بقدر ما سيثيران حوله من العواصف والضجيج الذي يطربه.
نشر هذا المقال في جريدة” السفير” بتاريخ 5 تشرين الثاني 2004