لن تحجب تظاهرات الفرح ومهرجانات التأييد الشعبي الواسع ولافتات النفاق السياسي الرخيص، عن عين »العماد« الآتي الآن إلى الرئاسة، غابة المشكلات المحلية المعقدة، والتي قد تتخذ لها عناوين متعددة، اقتصادية واجتماعية وتربوية، مذهبية وطائفية ومناطقية، ولكنها بداية وانتهاء: سياسية.
بالمقابل فإن هموم الداخل، بكل أثقالها، لا يمكن فصلها أو معالجتها بهدوء، وبعيدا عن التحولات الخطيرة التي يشهدها الصراع العربي الإسرائيلي، في طوره الجديد، والذي تبدى في أكمل »تجلياته« ليل الجمعة الماضي، وخلال حفل التوقيع الجديد على الاتفاق التنفيذي الجديد، في البيت الأبيض في واشنطن.
ويعرف إميل لحود، العسكري كما إميل لحود السياسي الآن، أن »الشراكة الثلاثية« التي أعلنت عن نفسها، بين بنيامين نتنياهو وياسر عرفات والملك حسين، تحت الرعاية الأميركية، هي »حرب مفتوحة« ستهب رياحها عاتية غدا على لبنان وسوريا وسائر العرب الذين لم يستسلموا بعد، ولا هم ينوون الاستسلام أمام مشروع الهيمنة الإسرائيلية المطلقة على الأرض والإرادات والثروات والمصائر العربية.
في هذه اللحظة يبدو كم كان »الخلاف« الذي أخّر التوقيع لمدة تسعة عشر شهراً شكلياً بل وهزلياً، وظيفته الوحيدة تصوير »الاتفاق«، من بعد، وكأنه »إنجاز« للطرف الأضعف أي الفلسطيني ما كان ممكنا الوصول إليه لولا العناد والإصرار والتمسك »بالثوابت الوطنية«!
لقد استبق الحدث العدوان الجديد تسلم إميل لحود مهامه من سلفه الياس الهراوي، ففرض على الرجل أن يدخل الرئاسة بلباس الميدان..
والحمد لله أن الرجل قد وصل في موعده تماما، لمواجهة التعقيدات الداخلية، بالتدخل السريع لحسم ما يمكن حسمه منها، والتخفف من ضغطها وإشكالاتها والحساسيات المتصلة بها، لكي يتفرغ لبنان كله، دولة وحكومة وشعبا، وبالتعاون المفتوح والمطلق مع سوريا، لمواجهة »الشركاء الثلاثة« الذين يقودهم ويحركهم ويوظفهم لخدمته القوي بين ضعيفين، والصحيح بين مريضين، والقادر بين عاجزين، والصلب العقيدة بين متهالكين: بنيامين نتنياهو.
وإذا ما لجأنا مجازا إلى التعابير »الإيديولوجية« القديمة فإن »اليمين« الإسرائيلي غزير التوالد، ولكل »يمين« في إسرائيل »يمين« يبرّره ويظهره معتدلاً، ويدفع العرب الى الخضوع لإرادته، خوفا من اليمين الأكثر تطرفا منه والذي يتربص به ويتآمر عليه وعلى ما يقبل به من »مقدمات السلام«، فإن سقط فهي الكارثة عربيا،
إن اليمين الإسرائيلي يعارض الآن »اتفاق الشراكة«، وقد عرضها عرفات قبل أن يطلبها نتنياهو، بمزيد من الصراع السياسي، حول مفهوم الأمن الإسرائيلي والضمانات المطلوبة: تعلن أحزاب أكثر يمينية من شارون (!!!)، وأعتى صهيونية من نتنياهو (!!)، رفضها للاتفاق، وتدمغه بالخيانة، وينزل المستوطنون إلى الشوارع، يسدون الطرقات ويهددون باللجوء إلى العنف، وتعزز الأجهزة الأمنية الحراسات من حول رباعي اتفاق واشنطن الخ…
أما »اليمين« الفلسطيني، إذا كان تعبير »اليمين« يستوعب إنجازاته، فيروج للاتفاق، بل انه يفرض الاتفاق بالحجر على أي تحرك أو كلام يمكن أن يعبّر عن الاختلاف سياسيا ولو في التفاصيل!
إن اليمين الحاكم في تل أبيب، والذي »صارع« في واشنطن لمدة تسعة أيام، لكي ينجز »مشروعه«، (فهو مَن صاغ أصلاً هذا المشروع البائس).. مقتنع بأنه فعل ما هو في مصلحة إسرائيل، أمنها، توسعها، مستوطناتها، تأكيد هيمنتها المطلقة على الفلسطينيين (في الداخل أساسا مع تدجين امتداداتهم في الخارج) ومن ثم إثبات تحولها إلى قطب جاذب للعديد من الأطراف العربية، بحيث باتت قوة بين العرب وليست قوة عليهم فحسب،
وربما لأن السلطة الفلسطينية تعرف أن ما فعلته غير سوي، وغير مقبول، لا بالمعنى الوطني، ولا بالمعنى القومي، لا بالمعنى السياسي ولا بالمعنى الأمني، فهي لا تجد ما تحمي به »اتفاقها« أي شراكتها للإسرائيلي، غير القبضة الحديدية، وغير فرض ستار من الصمت وقمع الصحف وإجبار المعارضين على ابتلاع ألسنتهم، وإطلاق النار على أطفال الانتفاضة الذين باتت ترى فيهم اليوم عدوها الأول!
في إسرائيل، لكل مستوطن حق القول واتخاذ الموقف الذي يراه الأنسب توراتيا أو واقعيا لمصلحة إسرائيل العظمى، من أقصى يمين اليمين إلى أقصى يسار اليسار،
أما في »المحمية الفلسطينية« فلا صوت يعلو على صوت »السلطة« التي تبدت الآن في صورتها الكاملة، مثلثة القبضات: أجهزة القمع الفلسطينية وهي متعددة و»متنوعة« الكفاءات و»الخبرات«، ومعها أجهزة المخابرات الإسرائيلية، الداخلية والخارجية، العسكرية والمدنية، وفوقها أو معها أو من خلفها المخابرات المركزية الأميركية.
إن هذه »الشراكة« ضرورية لتأمين »الشراكة« الأخرى، أو الأساسية، التي تباهى بها عرفات وهو يوقع على ما تبقى من فلسطين، معلنا أنه مع نتنياهو والملك حسين أطراف في »حلف« ضد أهله.
فياسر عرفات ممزق الميثاق الوطني الفلسطيني، والخارج عليه، والمتنازل عن وحدة التراب الوطني الفلسطيني، وعن وحدة الشعب الفلسطيني، داخل أرضه وخارجها في المخيمات أو في منافي الشتات، لا تربطه رابطة بالعرب الآخرين،
إنه الآن خارج جلده، خارج هويته، خارج قضيته، ويستطيع من ثم أن يصبح شريكا لنتنياهو، وإن كان لا يستطيع منافسة الشريك الثالث الملك حسين، الذي كشف أنه »السبّاق«، وأنه المؤسِّس لهذه »الشركة« منذ نعومة أظفاره… أي قبل أكثر من أربعين عاما!
إنها شراكة لمصلحة إسرائيل وبقيادتها وتحت إمرتها،
وهي حرب مفتوحة على عرب الصمود، وعنوانها الآن سوريا ومعها لبنان، بشعبه كله، وطليعته المقاومة الباسلة التي تواجه الاحتلال كل يوم، وظهرها غير مكشوف، لأن الجيش الوطني يحميها معززا بقدرات سوريا.
وقدر إميل لحود أن يدخل القصر بينما الحرب تتخذ منحى جديدا غاية في الخطورة،
من هنا تبدو أهمية أن يتم العمل لحل المشكلات الداخلية بأسرع وقت، ضمانا لتعزيز صمود لبنان وثبات جبهته.
والديموقراطية أحد أخطر أسلحة الصمود وأعظمها فاعلية،
واللبنانيون فرحون بوصول لحود الى سدة السلطة، وفي طليعة أسباب فرحهم إحساسهم بأنهم هم من اختاره، ولم يفرض عليهم، وانهم معه سيبنون دولة المؤسسات، وهي لا تبنى ولا تقوم إلا بالديموقراطية.
والمقاومة، في بعض وجوهها، هي أهم ثمار الديموقراطية.. فلا أحد يفرض الفداء على الجيل الذي له الغد.
… ستكون رئيساً بثياب الميدان، أيها القائد إميل لحود.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان