على غير انتظار، وجدت »وردة« فوق مكتبي تحمل عنوانا لافتا: »وجع له شكل الحياة«.
أما الاسم فكان كما الوشم الذي يحمل عبق الزمن الجميل، وذكرى صديق غاب قبل ان تيسر لنا الأيام فرصا لإكساب العلاقة شيئا من دفء الشعر او حميمية الخلاف او رتابة التوافق او خصومة السهر الصاخب.
»أرجو ان تجد في هذه المحاولة بعض الشعر او بعض الخصوصية«
التوقيع: رشا محمد عمران.
وفي إهدائها لأبيها يكتمل المعنى: »أبي، اليك حاضرا أبدا، محاولتي الاولى لدخول العالم الذي احببت«.
ولأن الشعر كله »خصوصية« فلقد فاض عن صفحات الكتيب القليل الصفحات، الغني بالصور والتشكيلات والظلال واللقطات والأحوال والتحولات بمراياها.
محمد عمران، الأب الشاعر، او الشاعر الأب، يطل عبر السطور والنقاط والفواصل البيضاء، والأهم عبر صراع الذات لاكتساب شرف البنوة من موقع التميز والفرادة، لا الالتحاق والامتداد الأبوي.
»أنا الطائر المستباح/ وحدها الريح تؤاخيني/ أرتدي ثوبها الغجري/ وأرحل مع سفرك الغريب/ مفردة كغابة في الظلام«
رشا »قادمة من أول الحريق
أدخل تائهة في جهات الوقت/ جهة الانكسار،
الحلم يتسرب من بين أضلاع الندى/ جهة اليباس
لا ينفع اخضراري/ ولا تفتح قصائد الرغبة في جسدي/ جهة الأقنعة«
ورشا: »يطلع الخريف الى نافذتي من شجن الغناء وأنا في حجرتي العالية«
الحزن في كل سطر. يطل من قلب اللهفة، يستوطن الشوق، يسكن وجه الرجل المهاجر: جئته من قطاف الوحشة،
قلت: أترك قلبي عصفورا في فضائه
سماؤه كانت موصدة/ أين يحلق قلبي؟!
نفس مأساوي يكاد يكون اغريقيا. ليس هو الوجد تماما، أبعد من الهجر، أقسى من لوعة الافتراق، لكأنه حب مصفى ولكنه مبتور، ومفصولة الحاء عن بائه: ربما ابتُدئ الآن موتي!/ فها هو صمت وكأس من الحزن
هذه اللفافة أحرقتها فاحترقت بها/ وانتهيت/ بقايا انتظار!
مشهدا لولادة عاشقة كان/ أم انه بشكل احتضار؟!«
الشجن؛ ما أكثر الشجن الذي يحاصر رشا وما أعمقه، فهو »بلون الأرض«، وهو يراودها الآن عن شغفها. ومع انها »كل صباح تقرأ أحرف وجهها في مرآتها، لكن الريح مرت ذات يوم فكسرت المرآة فأصبحت من دون وجه«.
تتكئ رشا على »شجن السؤال«، ووردة الحزن في قلبها، وصمتها يصرخ في رماد الخوف: وحيدة أمضي الى وجعي وانكساري.
في حالات معدودة يخترق الحب أسوار الشجن فيملأ المكان والنفس:
»سيدي/ إمنح لقلبي ان يحبك مرتين
هو لا يملك قامة الحور/ ليرقص للرياح«.
لكن الوجع سرعان ما يعود فيقتحم الحب ويملأه وتسقط من بينهما الحدود:
»ما بيننا وجع له شكل الحياة،
أحبك/ لأنني من موتي/ اخترع اللجوء بين عينيك وأوراقي،
أسافر دائما في التوق/ زوادتي ميراث حب وانتماء لمعنى ان نكون«.
وهي اذ تدخل قلبه عاري الشجر لا تعرف أين تظلل أحزانها:
»أبعد غبار يديك عن روحي/
أنا المتخمة باللا شيء/ لا شيء يحتويني«.
شعر رشا يمطرنا حزنا وشجنا،
ربما لأنه الديوان الأول الذي يجيء من خلل فراق الأب، بل من خلل الأحزان المعتقة لمحمد عمران ذاته:
»غاب الطريق عن الطريق/ وانتهى مطر الكلام،
نزق لحزن يستفيق/ حلم يهاجر في الغمام«
لكن الحب يفيض مجددا، ولعله من قلب الاحزان يولد وينمو ويتعاظم حتى يصير الحياة:
»لم أعد أذكر كيف شاكسنا الصباح
كنا حلمنا ببعض زهو،
جئته/ شهوة قلب يدخل في باب الخريف
وأتاني/ أبيض كالدمع يغسل الليل عن حلمي
لم أعد أذكر كيف قطفنا العشق/ كيف مددنا موائد الجسد
ودعونا الطين يشاركنا الضياء«.
رشا محمد عمران »وردة تدخل حالة الصباح«: »هل قلت: انك خاتم الحلم/ اني احترقت اذاً..«.
رشا محمد عمران سترشنا بالشعر طويلا، من بعد.
حارس السلطان..
مرّ بي موكب السلطان زاعقا، مجلجلا ومضطربا.
ملأ الخوف المكان، ولم أعرف بالضبط من منا الأعظم خوفاً. تقدم مني الحارس الجلف وأمرني بالركوع،
كان يخفي عينيه بكميه، لكن يده كانت ترتعش.
تعرفت الى الصوت فامتلأت عزما.
قال: لست الذي تعرفه! لقد ولدت من جديد! ضاع من عمري الكثير، وأنا مصر على تعويض ما فاتني، فاركع ولا تجادل.
قلت: أما أنا فما زلت الذي تعرفه؛ أموت ولا أركع!
استشاط غضبا فسادتني الطمأنينة: إنه الآن أكثر ضعفاً! عليه أولا ان يقتل شبابه ليتمكن مني!
صرخ: سأطلق عليك الكلاب؟!
قلت بلا صراخ: انها أرحم منك! هي لنفسها، فان لم تكن جائعة فلن تؤذيني، أما أنت فلا تشبع الا اذا أذيت غيرك!
قال: لا تحاول ان تقاتلني بماضيّ. لقد تحررت منه. الثورة حلم جميل ولكنها هدف سخيف وتافه. انها تقتل أهلها وتضخ الدم في شرايين خصومها. انها اختراع جهنمي للسلاطين، يرمون بها رعاياهم فيقتتلون بها، وعليها، ومن أجلها، حتى اذا انهكهم العراك عادوا الى حظيرتهم تائبين. اما أنا فقد جئت تائبا من قبل ان يهدني العراك. انني بهذا المعنى »تقدميّ«، اذا شئت، او »طليعي«. لقد انهيت ثورتي بسلام مع النفس ومع السلطان، واكتشفت ببساطة ان ماركس يصلح مستشارا ولا يصلح ملكا، وان لينين كان سينجح كرئيس لوزراء القصر اكثر من نجاحه البائس في دور القيصر.
قلت في محاولة لإنهاء الجدل: مبروك. أكمل طريقك ودعني أكملْ طريقي.
قال: ممنوع المرور من هنا. هذا للسلطان وحده. ان شئت ان تدخل، أخذتك اليه. هيا، تعال معي.
قلت: متى رغبت فلن احتاج الى شفاعتك، أستطيع ان أبيع جلدي بنفسي. أليس هذا ما فعلته أنت!
قال: لا تضيع المزيد من السنوات. أنا نادم على كل يوم أمضيته في الخارج!
قلت: أفضل ان أبقى قادرا على الندم، من ان أندم مرة واحدة، وأنا انتهي.
قال وهو يفتح الطريق: هيا أغرب عن وجهي أيها الغبي. لن تجد شيئا. لم يتبق شيء!
حوار بين زمانين
قال الذاهب شبابه: متى خلق الله كل هذه الإناث؟!
في زماننا كانت الأنثى تختبئ في القصيدة، فنحفظها، وحين يهزنا الشوق نستعيد الشاعر ليأتينا بها الحلم.
قال الذاهب الى شبابه: لقد مللتهن، ليتك تأخذ بعضا منهن عني!
قال الذاهب شبابه: أشعر بالاستفزاز كل لحظة، في الطريق تتساقط المشوقات والمحرّمات التي كنا نختلس صورها اختلاسا. في كل خطوة اتعثر بالأرداف المبرزة لتتجاوب مع إعلانات السراويل، او تشرئب من أمامي الصدور شبه المكشوفة كأنما لتتهم يدي بالعجز، اما السيقان بلحمها المطلي بما يلمع والتي استطالت عارية حتى الصرة تقريبا، فلم تعد تلفت النظر، وان كانت تستولد الحسرات.
قال الذاهب الى شبابه: كثيرة هي النسوة، فلماذا التشكي؟ هيا، خذ نصيبك منها! انها لمن يرغب.
قال الذاهب شبابه: رغبنا بهن فعز علينا الوصول، وحين رغبن بالوصول لم يعرفن لنا عنوانا.
قال الذاهب الى شبابه: هيا معي، فلا تقل انك قد شخت، تعال أرِك ما لا عين رأت…
قال الذاهب شبابه: لا يتفرج أحد على شبابه، بل يعيشه. إذهب، عليك اللعنة، فالشباب لا يؤجر ولا يعار. أخاف عليك حسدي، أما النساء، قاتلهن الله، فإني أرى في استخفافكم بهن ما شفى غليلي الى الانتقام من غيابهن يوم حضرنا، وحضورهن حين اقتربنا من الغياب.
مناجاة
ضمر الوجه فصار أشبه بقلبي.
ضمر القلب فصار مثل التمني.
حاسرة الرأس تمشي،
ويتسلق الربيع الدائم جدار العين ليستنبت الخضرة زغباً ينميه كل ليل فيتكاثف ويستطيل مستجلبا السواد، ليكمل زخرفة الجمال الحزين.
اكتبك حجابا وتنثرينني عذاباً.
يعلو الصوت فيغتال الفكرة المشعة، ويتراجع الأمل متعثرا بخطاه وخطاياي ودمعي.
لماذا لا تكون أفكارك كوجهك؟
لماذا تحبسين حبك في غضبك، وتشتبكين مع الوهم؟
ليس رفض الحياة أفضل طريقة للتعبير عن الحب، او عن الرغبة في قهر المستحيل.
لماذا تصرين على مشابهة المستحيل؟!
متى تدخلين الربيع المصلوب على بابك؟
لكنه المكان..
ازدحم بكِ المكان.
انتثرتِ فوق مقاعده، واقتعدت نوافذه والشرفات. تسلقتِ الجدران فمشيت على السقف، وكنس ظلك المكان وأنفاس الذين سبقوك، وهتفت: لا أحد بعدي!
تصارعت مع خوفك فصرعته، فتقدم يخلع عنك المعطف ويجردك من الجوارح حتى لا تؤذي نفسك.
ضاق المكان بالهمس الحميم ففتحت مكمن السر ليتسع للشبق النازف كالصراخ.
لكنه المكان..
نبتت لك ألف يد، لكن الطوق ظل ضعيفا، فسددت باب الخروج بصواعق تنذر بعواصف شتائية بلا مطر.
جمعت نثارك من الريح. لملمتك همسة، ثم أغلقت عليك سرك، ومشيت على حد الماء.
هو المكان…
عنوانه: خلف التمني وقبيل الأفول.
انطفاء العيد
أقف على حد الموعد،
لا أقطعه، ولا أنساه، ولا أدخل فيه.
تدق ساعته في صدري فتمّحي الحدود بين الثواني والدقائق والأيام.
لا وقت خارج موعدك.
ما قبله مجرد طريق،
وما بعده لا شيء الا انطفاء ما بعد الحريق.
أرقى درجات الموعد طائرا،
وتهبط علي واحدة واحدة وأنا أندفع مفتشا عن هواء لرئتي.
أخافك في الحضور وفي الغياب،
أغزل الشعر في الانتظار، بينما الشعر هو الوصول.
السر في الداخل،
وفي الخارج الليل،
وأنا مضيّع بين العتمتين،
أتبع صدى اللهاث المشع،
ونقوش السجادة المرتسمة على حدقتي العين.
والموعد يدق كجرس كنيسة بعيدة إعلانا عن انطفاء العيد.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لا تعرف له مهنة الا الحب:
ليس كل ما تقرأ او تسمع عنه حباً. من يؤذِ بحبه زمانه الجميل فانما يدعي لنفسه ما ليس فيها. لا يحمل الحب السعادة الى اثنين والتعاسة الى المجموع. الحب مشاع. الحب عطر. الحب نور، ينتشر فيعطي كلا قدر حاجته، ومع ذلك لا ينقص بل ينتظر المزيد من الآخذين.
الحب يأخذك الى الناس ولا يأخذك من الناس. الحب بالناس لا على حساب الناس.