دائماً ينتهي أمر القمة وتتهاوى الآمال المعلقة عليها بتلك الصيغة البائسة: التوافق… والتوافق لا يتم إلا على الحد الأدنى، والحد الأدنى أقل من أن يستحق لقاء على مستوى القمة، فيصبح مشروعا السؤال عن جدوى انعقاد القمة؟
هي مفارقة عربية دائمة، إذاً: القمة في الأدنى، والأدنى في القمة… والقمة لا تعني بالضرورة الارتفاع بمستوى القرار وبمستوى المسؤولية عن اتخاذه، مما تعجز عنه دولة واحدة أو هي تخاف استفرادها ان هي اتخذته.
وكما في أي قمة عربية، حصل في القمة التاسعة عشرة لدول مجلس التعاون الخليجي التي انفض عقدها، قبيل الغروب أمس، في أبو ظبي: تمت التغطية على الخلافات الجدية، الاقتصادية أساسا ومن ثم السياسية، بالمبالغات اللفظية والإفاضة في الحديث عن التوافق والتضامن والتعاطف والتراحم وسائر مرادفات الأخوة المؤكدة بالمصالح المشتركة وروابط التاريخ والجغرافيا والدين وعناصر التكوين الأولى الخ..
وإذا كان الشيخ زايد، قد عانى حرج المضيف، فإنه قد اختار أن يعبر عن مرارته العميقة، وربما عن جرحه، بالإكثار من الاعتذار وطلب السماح من »اخواني أصحاب الجلالة والسمو«.
بدا الفرق واضحا بحيث لا يمكن طمسه بين كلمة الافتتاح الترحيبية المستبشرة، وكلمة »الوداع« المبتسرة والناضحة بوجع من خاب أمله أو فُجع بخذلان اخوانه في مسائل كان يعتبرها من البديهيات.
لم يكن بالإمكان إخفاء الارتباك، فالشهود هناك: عشرات من الصحافيين المدعوين إلى حفل الختام لبثوا في مقاعدهم داخل القاعة لأكثر من ساعة، في انتظار ان تمتلئ مقاعد أصحاب القرار بهم، ثم لمّا زاد تململهم ومعهمم أعضاء الهيئة الاستشارية لمجلس التعاون سُمح لهم بالخروج منها للتدخين وشرب القهوة، بينما »الكبار« يعالجون مواضيع الخلاف التي كانت معروفة، وأبرزها بعض ما يتضمنه أو ما كان يتضمنه »إعلان أبو ظبي«، ولا سيما لجهة الدعوة إلى المصالحة العربية، ثم لجهة الإلحاح على ضرورة اللقاء العربي القمة الدوري والثابت الموعد والملزم بقراراته.
وامتدت مساحة الخلاف، فطُلب إلى »الشهود« ان يدخلوا قاعة المطعم لتناول الغداء، بينما كان جهابذة الصياغة يعيدون كتابة المطالب (تلك) بعبارات ممطوطة لا تجديد فيها ولا إشارة ولو عابرة للقمة أو الإلزام أو الموعد الدوري الثابت، عدا عن المصالحة التي رأى فيها البعض إشارة مباشرة الى العراق وفق نظرية الشيخ زايد: »هذا شعبنا وعلينا أن نعينه، ولا يجوز أن نتخلى عنه في محنته، وليتوقف الأميركان عن تهديدنا بصدام حسين، فنحن المعنيون بتهديداته ونحن نقول اننا لا نخافه ولا نظن انها جدية، ولا نقبل ان نعاقب شعب العراق بسببها..«.
لعله زمن الشح…
لعله الإنقاص المتعمد والمدبر للدخل النفطي الذي كان هائلاً وبات أدنى من أن يلبي الاحتياجات الطبيعية لأية دولة، عدا عن أن »يُشبع« باعة الأسلحة وتجار بضاعة التخويف والمستفيدين من صفقات التسليح التي لا تنتهي والتي تلتهم خبز الناس وتضعهم في مواجهة خوف جدي من الغد واحتمالاته المقلقة!
لعله الفارق بين من يملك احتياطيا ممتازا من مدخرات الأمس، كدولة الامارات، وبين الذين لم يعد بإمكانهم أن يغطوا عجز موازناتهم واضطرارهم الى الاستدانة، من الداخل حينا ومن الخارج أحيانا، والذين أوقفوا خطط التنمية، وباتوا يعيشون من رفع مصادر دخلهم ولو عن طريق بيع منتجاتهم الصناعية في الأسواق القريبة بتعرفة جمركية مخفضة تهدد من يعتمد في دخله على الجمارك!
أسعار النفط هي القضية،
لكن هؤلاء المنتجين الكبار جداً لا يملكون أن يتفقوا لا على خفض الانتاج ولا على رفع الأسعار!
والسيف الأميركي مشهر: يشل منظمة »أوبك« ويكاد يعطلها تماما، ويلجم من يحاول الانفراد بقراره، كما يمنع تقارب الضحايا حتى لو كانوا »أخوة« كما أهل الجزيرة والخليج؛ هؤلاء الذين تجمع بينهم الأنساب!
في أي حال فإن ما تجنب البيان الختامي التركيز عليه كان قد أعلنه الأمير عبد الله بن عبد العزيز في خطابه المكتوب الذي وُزِّع مع الافتتاح، ومما جاء فيه: »لعله من الضروري أن نبدأ بأكثر التحديات إلحاحا، فما مرت به دولنا المصدِّرة للبترول في السنة الأخيرة من ظروف صعبة، أمر يحتم علينا أن نسميها باسمها الحقيقي فنقول إنها وصلت إلى مرحلة الأزمة، وأدى التدهور السريع في أسعار البترول الى انخفاض حاد في المداخيل أثّر تأثيرا ملموسا على الإيرادات. لذلك علينا ألا نقف مكتوفي الأيدي ونحن نرى مصدر دخلنا الأساسي يتعرض لهذه الهزة الكبيرة«…
وبعد التوصيف تقدم ولي العهد السعودي باقتراحات محددة:
»1 السبيل الوحيد للبقاء في غابة المصالح الاقتصادية المتضاربة هو إقامة اقتصاد خليجي موحد يستطيع الصمود ومنافسة الكيانات الاقتصادية الكبرى… فماذا يحول دون قيام سوق خليجية موحدة، وبالتالي اتحاد جمركي واحد على أساس تعرفة جمركية موحدة.
2 مع الترحيب بالانضمام (الضروري) الى منظمة التجارة الدولية، فإن واجبنا المطالبة بحقوقنا كاملة غير منقوصة: أي حقوق التجار أيضا!
3 على القطاع الخاص أن يخفف من الاعتماد على غير المواطنين ويُحل المواطنين محلهم ضمن برنامج عملي مرحلي مدروس وذلك انطلاقا من أن اعتمادنا سياسة التخصيص يقوم على إيماننا بضرورة المشاركة الفعالة بين القطاعين العام والخاص«.
لكن كوفي أنان، وقد صادف وجوده »ضيف شرف« على القمة مع الذكرى الخمسين لاعلان حقوق الإنسان، اضطر الى تذكير هذه الدول الخليجية التي تتعرف تدريجيا إلى الديموقراطية، بمفهومها الغربي، وبالذات إلى الانتخابات والمشاركة الشعبية في القرار، بالترابط بين المكانة الدولية وبين نسبة الحريات في الداخل.
وقد وُجد من يترجم الحديث عن إشراك المواطنين في تبعات العجز بأنه يستتبع بالضرورة إشراكهم في مسؤولية القرار، فمن »يدفع« لا بد من أن يأخذ »معنويا« مقابل ما يُفرض عليه، سواء على شكل ضرائب أو رسوم أو اجراءات تقشف من شأنها أن تبدل في حياته وطموحات مستقبله.
باختصار، فإن جدول الخلافات لم ينقص، هذا إذا لم تكن قد زادت بنوده، وربما اكتسبت في ظل الضائقة الاقتصادية، شيئا من الحد.
ولعل دولة الامارات، مثلا، تأخذ على السعودية ما تعتبره اندفاعا نحو إيران، بينما مشكلة الاحتلال الإيراني للجزر ما تزال قائمة، مفترضة ان هذا الاندفاع يؤثر سلبا على موقفها إذ يكشف عدم تضامن الأقربين معها.
بالمقابل فإن دولة الامارات تطالب بصيغة ما للتواصل مع شعب العراق والتخفيف من محنته، حتى لو أدى الأمر الى »علاقة ما« بالنظام في بغداد، فالمهم توكيد الالتزام الأخوي مع العراقيين الذين يموتون جوعا وإذلالهم اليومي يصيب جميع العرب… وبالطبع فإن الكويتيين لا يقبلون مجرد التفكير في مثل هذا الاحتمال!
وفي موضوع النفط وكيفية مواجهة المعضلة لا يبدو ان هناك توافقا على قرار موحد، كخفض الانتاج مثلا.
كذلك فإن التعارض في موضوع التعرفة الجمركية قد أظهر »تكتلين« متواجهين، الى حد ما: الأول يضم الإمارات وقطر، والثاني يضم السعودية والبحرين، مع تأييد ضمني كويتي..
أما عُمان فتبدو خارج دائرة الخلافات، وصمتها قابل للتفسير بما يناسب كل طرف، ولعلها تحفظ لنفسها دور »المساعي الحميدة«.
لعله الشح،
فالفقر فضّاح، بينما الوفرة ستارة للعيوب والخلافات..
ومجلس التعاون الخليجي الآن أمام امتحان جدي، ربما أكثر مما كان في أي يوم: فإن هو لم يثبت وجوده كمؤسسة فعالة يتهيبها من في الخارج، لوهجها الذهبي ولقدراتها النفطية التي كانت الى ما قبل حين سلاحا ماضيا فكاد ينقلب الآن على أصحابه، ويرى فيها أهلها (أي من في الداخل) طريقهم الى المنعة والرفاه والتقدم، فإنه يفقد الكثير من رصيده.
وفي بعض استطلاعات الرأي التي نُشرت في »الملف السياسي« في العدد الخاص الصادر لمناسبة القمة (وهو ملحق لجريدة »الاتحاد« الرسمية في أبو ظبي) يتساءل المواطنون في مختلف أقطار مجلس التعاون الخليجي:
أين الجواز الموحد؟ أين العملة الخليجية الموحدة؟ أين المساواة في الحقوق والواجبات التي تخص أبناء الوطن الأم؟! أين الجيش الواحد؟! أين سكة الحديد التي تربط هذه الأقطار وتيسّر الانتقال؟! ولماذا لا نسافر بالبطاقة؟ أين السوق المشتركة؟! ولماذا لا يتوحد التمثيل الدبلوماسي؟! الخ..
الطموحات أكبر من الانجاز، والتمنيات تُسقط الحدود التي لا تسقط.
لكن التجربة مستمرة: تواجَه المشكلات ويجتهد المعنيون في حلها، آخذين بالاعتبار دور الوقت في تذليل العقبات.
لكن الوقت، كالنفط الآن، قد ينقلب من سلاح في يدك الى سلاح عليك، خصوصا إذا ما أخذ بالاعتبار ما يجري في العالم من تحولات.
ويبقى حديث المجلس و»العملية السلمية« ومصير »إعلان دمشق« والموقف من قضايا الصراع العربي الإسرائيلي وتفرعاته،
وستكون لنا إليها عودة..
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان