لن يزيد قدوم الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى لبنان، في زيارة رسمية، بعد غد، من انقسام اللبنانيين أو احتدام الخلافات في ما بينهم، فهي قد بلغت الذروة بحيث أنه لا مجال لمستزيد.
فاللبنانيون الذين لم يكونوا في أي يوم موحدين تماماً، كسائر شعوب الأرض، يتابعون ممارسة رياضتهم المفضلة في تأكيد خلافاتهم على كل شيء تقريباً: على الهوية، على السلطة، على الحاضر والمستقبل، على الجريمة والعقاب، على العدالة والظلم، وصولاً إلى التحرير والاحتلال وصولاً إلى البديهيات التي تجعل من «الأقوام» المشدودة إلى أساطيرها الخاصة شعباً واحداً بتاريخ موحد في ماضيه وحاضره ولا سيما في مستقبله.
بل إنهم يتبادلون الأدوار ببراعة وتلقائية عجيبة: مَن كان ضحية يصير ـ فجأة ـ جانياً، ومَن كان بطلاً وطنياً يصير مخرباً هداماً يريد تدمير السلم الأهلي والهوية الوطنية، ومَن كان طبيعياً في عواطفه وفي سلوكه وفي علاقاته مع سائر أهله يتحول ـ في لحظة ـ إلى قاض لا تقبل أحكامه المراجعة أو إلى مطلوب للعدالة، ولا مجال للتسوية أو لاستذكار حقيقة بسيطة هي أن الكل ضحايا وشركاء في الخسارة (كما في حالة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري) أو في الارتقاء إلى مرتبة الشرف بين الشعوب المقهورة باحتلال عدو وافد، عنصري وسفاح ومتجبر ومعزز بدعم دولي غير مسبوق، كما في تحرير الأرض وإجلاء المحتل الإسرائيلي، ثم في الصمود أمام حربه (الرابعة، الخامسة، العاشرة..) التي كانت دائماً ضد لبنان كله حتى وإن استهدفت بنيرانها المدمرة بعضه (بقصد شق اللبنانيين)… فهذا الوطن أصغر من أن يقسم، ووحدة مصيره أقوى من أن تذهب بها الانقسامات السياسية، حتى وهي تتخذ أفظع أشكالها وأخطرها: الفتنة على قاعدة مذهبية، أو طائفية.
[ [ [
لقد استقبل أهل الحكم في لبنان خلال السنوات القليلة الماضية، في مقارهم الرسمية كما في بيوتهم، العديد من المسؤولين الأجانب، بينهم من لم يعرف بحبه المكين للبنانيين (أو العرب عموماً)، بل أن بينهم قادة للاحتلال الأميركي للعراق، وأصدقاء حميمون للعدو الإسرائيلي وقادته… نذكر ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، ووزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، وقائد القيادة الوسطى (في الجيوش الأميركية) الجنرال ديفيد بترايوس، ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس جون كيري، ومستشار الأمن القومي (الذي استقال مؤخراً) جيم جونز، ووفد من الكونغرس برئاسة جون ماكين.. بغير أن ننسى الموفد الخاص جورج ميتشل..
كذلك فقد استقبل أهل الحكم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ووزير خارجية بريطانيا (السابق) ديفيد ميليباند، والعديد من رؤساء الحكومات والوزراء الغربيين الذين جاءوا للاطمئنان على وحداتهم العسكرية المشاركة في «اليونيفيل».
أما البعثات العسكرية الأميركية، وأما زيارات رجال المخابرات البارزين، فهي متواترة، وإن كانت أسئلتهم عن احتياجات لبنان دائمة، مع وعد بتقديمها في أسرع وقت، وما حصل أن آخر ما تم هو إخضاع هذه المساعدات المحدودة والتي لا تفيد في صد العدو، وإن أفادت في «قمع الشغب» الداخلي، إلى موافقة الكونغرس… وهي ما تزال عالقة فيه.
أما على الصعيد الداخلي فإن «الدول»، ودائماً بالقيادة الأميركية، قد نقلت الخلافات بين أبناء هذا الشعب الصغير وانقساماته الداخلية إلى مجلس الأمن الدولي، وجعلته أشبه بمجلس تأديبي للبنان كله وإن بعنوان مَن ترى فيهم الإدارة الأميركية مصدر خطر على هيمنتها أو مصدر صمود وأهل مقاومة في وجه الاحتلال الإسرائيلي… وهكذا أصدر هذا المجلس عدداً من القرارات التي مهدت للحرب الأهلية في لبنان (1559)، ثم أتبعه ـ بعد جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ـ بمجموعة من القرارات التي كان من نتائجها تحويل الحياة في لبنان إلى جحيم.
وليست مبالغة القول إن لبنان يعيش تحت وصاية دولية، كادت تجعل من «حادث العديسة» فرصة لتأديبه وتحريضه ضد مجاهدي المقاومة من أبنائه، مستخدمة السيف الطويل للقرار 1701 الذي صار ضمانة إضافية لإسرائيل، يحميها كما لا تستطيع القوات الدولية القائمة في أرضنا على حراسة حدودها… وكأن لبنان هو الذي يغير بجيشه الذي لا يهزم على إسرائيل فيدمر مدنها ويهجّر أهلها ويخرّب اقتصادها، ويجعلها تعيش على القروض!
[ [ [
لقد حوّلت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني إيران من حليف استراتيجي خطير لإسرائيل، إلى صديق كبير للعرب… وهي قد استمرت في موقع الصديق برغم الحرب التي شنها عليها صدام حسين، والتي تسببت في إلحاق أذى عظيم بالبلدين الجارين، وأضاعت فرصة تاريخية لعلاقة حيوية جداً للعرب والإيرانيين في آن معاً. وكان ما كان من ارتداد صدام حسين في اتجاه الكويت واحتلالها، مما أدى إلى تدمير العراق ومن ثم إلى اجتياحه عسكرياً وإسقاط نظامه الدكتاتوري، بحرب أميركية مكشوفة ومستمرة، تنذر بتفكك هذه الدولة العربية القوية، والتي كانت أملاً عزيزاً للعرب في تأكيد قدرتهم على صنع مستقبلهم بإرادتهم.
وإنه لمن المضحك أن «يكتشف» البعض أن لإيران مصالح حيوية في هذه المنطقة، وكأنما سائر الدول وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية التي تهيمن على معظم «دولنا» ـ وبالاشتراك مع إسرائيل ـ هي جمعيات خيرية أتت لنجدة شعوبنا المقهورة.
إن غياب أهل النظام العربي وعجزهم عن القرار، وهربهم من مسؤولياتهم تجاه شعوبهم، هو المسؤول أولاً وأخيراً عن حالة التردي والعجز بل الهوان التي تعيشها منطقتنا التي تكاد تفقد هويتها، فتصير، مرة، «الشرق الأوسط الجديد»، ومرة أخرى «الإقليم» الموزع مناطق نفوذ بين الدول المؤثرة في المنطقة، وأساساً إيران وتركيا، فضلاً عن الولايات المتحدة الأميركية ودولة يهود العالم، إسرائيل… أما العرب ففي التيه وقد سلموا مصائرهم للصديق الكبير وبكلفة باهظة آخر صفقاتها بأرقام فلكية مذهلة، لأسلحة لن يستخدمها إلا صانعها وصانع تلك المصائر!
[ [ [
إن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الذي يحل ضيفاً كبيراً على لبنان، بعد غد، إنما يمثل الدولة التي وقفت دائماً إلى جانب لبنان، دولة وشعباً، وقدمت له أسخى المساعدات، لا سيما بعد الحرب الإسرائيلية عليه قبل أربع سنوات..
ولقد سبق أن زار الرئيس ميشال سليمان إيران، وكذلك الرئيس نبيه بري، وثمة دعوة موجهة إلى الرئيس سعد الحريري، كما قصد إيران عدد من الوزراء ووقعوا عقوداً واتفاقات لمصلحة لبنان، فضلاً عن رجال الاقتصاد والأعمال، قبل الحديث عن «حزب الله» والدعم الممتاز الذي قدمته إيران لجهد التحرير، ثم لإعادة بناء ما هدمته الحرب الإسرائيلية في مختلف مناطق لبنان.
وإذا كان مفهوماً أن يعترض بعض الساسة اللبنانيين المعروفي التوجهات والارتباطات على هذه الزيارة، ومحاولة الإساءة إلى الضيف الكبير وإلى الجمهورية الإسلامية في إيران، فإن استقبال الرئيس الإيراني ـ في الجنوب على وجه الخصوص ـ سيؤكد في اللبنانيين وفاءهم لمن ساعدهم في زمن المحنة، ولمن ما زال يمد يده إلى مساعدتهم جميعاً، حتى وبلاده تحت الحصار الظالم بالعقوبات الأميركية والغربية والتهديدات الإسرائيلية التي استقدمت آخر شحنة من الطائرات الحربية الأميركية «لتخويف» هذه الدولة التي أعادتها الثورة الإسلامية إلى المسرح الدولي كقوة مؤثرة وذات حق في أن يكون لها صوتها في أمور منطقتها، بينما غيرها قد تخلى عن هذا الحق لأصحاب القرار ـ في واشنطن ـ من قبل ومن بعد.
لقد استقبل لبنان، من قبل، الرئيس الإيراني محمد خاتمي، وكانت زيارته فرصة ممتازة لتوطيد العلاقات بين البلدين الصديقين، قبل الحديث عن المصالح المشتركة.
وها هو لبنان يستقبل الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، بعد سبع سنوات من زيارة سلفه الذي عامله اللبنانيون كصديق كبير.
وإيران هي إيران، كائناً من كان الرئيس… وهي في موقع الصديق الكبير بشهادة التجربة الحية، وبغض النظر عمن يرفعون أصواتهم بالاعتراض لكي يسمع الصدى في عواصم مذهبة عديدة، فضلاً عن واشنطن التي تكاد تكون المرجع الأخير لمعظم أهل النظام العربي.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان