مع الصباح، اتقصد القيام بجولة (في السيارة طبعاً) لتفقد العاصمة النوارة بيروت، والاطمئنان الى أهلنا فيها.
اقصد من بيتي في شارع العالمة الفرنسية “مدام كوري” والتي ترجمها البيارتة الى “قريطم” وباتت معروفة بعدما اشترى الرئيس الراحل رفيق الحريري أحد قصور نجيب صالحة، الذي كان اشتراه من بعض آل سرسق.. ثم أضاف اليه “أبو بهاء” البناية العامرة والعالية بطوابقها العشرين، والتي كان طابقها العلوي (فوق) مخصصاً للمآدب الملكية الحاشدة، وليس لمن هب ودب من السياسيين أو الزوار العابرين أو “أهل البيت” من السياسيين والصحافيين من أصحاب الحظوة، والذين لا تقنعهم الاتصالات الهاتفية التي يباشرها الراحل في السادسة صباحاً، وقد يفرغ منها مع انتصاف الليل.
من بيتي الى مكتب “السفير” القريب، عبوراً من أمام فندق بريستول ثم أعبر الشارع الذي تقع فيه دار الاذاعة اللبنانية التي تتعب في العثور على موجتها وأصوات المذيعين والمذيعات التاريخيين فيها، فمبنى وزارة الداخلية الذي كان “السراي”، مؤقتاً في زمن الحروب الدهر (بين 1974 و1982)، ثم تجددت في خريف العام 1990 بقيادة العماد ميشال عون، وبذريعة الاعتراض على “الوجود السوري” الذي لم يعترض خلال دهر وجوده الطويل على “العماد” في قيادة الجيش، ولا هو اعتراض..
أصل الى شارع “سبيرز”، الذي كان القنصل العام البريطاني في أيام الانتداب الفرنسي، وفي الروايات القديمة ان اتصالاً هاتفياً منه لبعض النواب المتلاقين في منزل الراحل اميل اده جعلهم يذهبوا في الصباح لانتخاب الشيخ بشارة الخوري ينفضون متكأكئين على الهمسات كأول رئيس للجمهورية في دولة الاستقلال.
اندفع نزولاً الى ساحة الشهداء، وقد كان اسمها ساحة البرج، تخترقها خطوط الترمواي بمساراته المختلفة: من الدورة الى “البرج” وقد ينتقل الراكب الى التراموي الثاني الذاهب عبر باب ادريس الى المنارة.. أما الخط الثاني فكان ينطلق من حرج بيروت الى ساحة البرج… وهكذا تتقاطع الخطوط في تلك الساحة التي كان يتلاقى فيها اللبنانيون والزوار، فيتعارفون، ثم يتوزعون على الأسواق المحاذية يتبضعون..
أكمل المسير فأعبر المبنى الفخم لبلدية بيروت التي اتخذ منها الأمير فيصل الأول، نجل الشريف حسين، أمير مكة ومطلق الرصاصة الأولى في “الثورة” التي دبرها البريطانيون لوراثة الحكم التركي، ثم تنازلوا عنها ليصير فيصل الأول ملكاً على دمشق، قبل أن يؤمن سبل تهريبه، حيث تلقفه الانكليز ليأخذوه الى عرش العراق، سنة 1920، بينما استرضوا شقيقه الأمير عبد الله بتنصيبه على عرش “شرقي الأردن” الذي اقتطعت أرضه من سوريا.. (وبعد ثلاثين سنة، واثر النكبة العربية في فلسطين وإقامة دولة اسرائيل، بالقوة والتواطؤ بين الحركة الصهيونية بقيادة هيرتزل، والبريطانيين وبعض القيادات العربية، حيث تولى حكمها ديفيد بن غوريون .. في حين أرجأ الاسرائيليون التهام الضفة الغربية فتركوها وديعة لدى الأمير عبد الله الذي بات بفضلها ملكاً.. سرعان ما تم اغتياله في القدس، غير بعيد عن المسجد الأقصى ـ الذي باركنا من حوله..
بعد اغتيال الملك عبد الله نودي بنجله الأمير طلال، لكن البريطانيين اعتبروه متطرفاً فاتهموه بالجنون، وجاءوا بنجله الحسين ملكاً تحت وصاية الجنرال غلوب باشا (البريطاني)، والذي كلف بقيادة المعركة ضد الاسرائيليين الذين “اغتصبوا” فلسطين بذريعة تنفيذ “وعد بلفور” الذي كان عشية الحرب العالمية الأولى وزير خارجية بريطانيا العظمى، وهو الوعد الذي أعطاه من لا يملك (بلفور) لمن لا يستحق “هيرتزل” أحد مؤسسي الحركة الصهيونية.. وكان الوعد “يعطي” فلسطين لليهود على حساب شعب فلسطين، الذي كان شعبها على مر التاريخ.
… ألمح بعد باب ادريس شوارع بأسماء شهيرة في بلادها، لكن لا علاقة لها ببلادنا: الجنرال اللنبي، الجنرال فوش…
انزل في اتجاه كورنيش المنارة، وأسير بمحاذاة تلك المساحة الهائلة التي قرر الرئيس الراحل رفيق الحريري ردمها لتكون حديقة عامة، يذهب اليها سكان بيروت لممارسة رياضة المشي والتنزه في أنحائها، حيث يمكن اقامة مقاه وأندية رياضية وحدائق للأطفال لممارسة العابهم في رعاية الأهل..
لكن ما تقرر لم ينفذ، بل اقيمت فيه دارة للمعارض، وبعض المطاعم، ومحلات تجارية ممتازة لبعض النافذين وبناتهم المعصومات وأبنائهم العباقرة.
الحظر أبقى حشد المتنزهين يومياً، صباحاً ومساء، على كورنيش المناورة في بيوتهم..
لا شيء الآن إلا هدير البحر يدوي في الفراغ، وقلة من الصيادين القدامى يحاولون تأمين غذائهم من الأسماك.
يستوقفنا شرطي مولج بحراسة الفراغ، فما ان يتعرف علينا حتى يسمح لنا بإكمال الجولة، مع إظهار شيء من الاستغراب لهذه الهواية.
أكمل السير حتى كورنيش المطار، وأعود عبر حرج بيروت ـ شارع بشارة الخوري، الى شارع الحمراء المقفلة متاجره جميعاً ودور السينما والمسارح، في ما عدا الصيدليات.
*****
عد الى منزلك.. سالماً،
لقد أنجزت المهمة فـ “سلمت على بيروت”: عليك مني السلام يا دار أجدادي..
وعسى نخرج جميعاً سالمين من مخاطر وباء كورونا… فنلتقي جماعات، جماعات، نغني العتابا وأبو الزلف، ويا غزيل، وعلى دلعونا، والفراقيات وأغاني علي حليحل، وملحم زين مع اضافات من تراث فيروز ووديع الصافي ونجاح سلام و…
لا تخف من كورونا…
خذ الحيطة والحذر، ولتكن لك السلامة ولعائلتك الصحة والسعادة، ولتذهب كورونا الى الجحيم.