أعدى أعداء مجلس النواب هم بعض السادة النواب، وفيهم »أقطاب« و»قياديون« و»رؤساء كتل« برلمانية جرارة،
إنهم أشد على »مجلسهم« من أعتى خصومه والطاعنين بشرعية »الجمهورية الثانية« برمتها كامتداد منطقي لرفضهم اتفاق الطائف بمفاعيله كافة.
إن هؤلاء السادة النواب ينفون عن مجلس ال128 هذا الأهلية والجدارة »بتمثيل الشعب« و»التعبير عن إرادة الأمة«، في حين يحصر »الخصوم« مطاعنهم في نزاهة الانتخابات وما اعتورها من »مقاطعة« تسبَّبت في غياب أو تغييب بعض التيارات السياسية وبعض الوجوه البرلمانية ذات التاريخ.
يكفي أن تقرأ أو تسمع بعض التصريحات الصادرة عن هؤلاء النواب حول »منافع« التمديد أو التجديد لرئيس الجمهورية، أو حول »المخاطر« أو »المضار« الكامنة في إجراء الانتخابات البلدية، لتستوثق من أن السادة النواب قد استقالوا فعلاً من مواقعهم ومن المهمات التي انتدبوا أنفسهم لأدائها، واكتفوا من العمل السياسي بوجاهة اللوحة الزرقاء واعتمادات الطرق والمخصَّصات التي زادوها لأنفسهم وبتواطؤ مريب بنسبة أربعين في المائة، مؤخرù!
إنهم يتفاصحون فيسردون موجبات عجيبة لتمديد الولاية أو التجديد لرئيس الجمهورية تشكّل هي بذاتها حيثيات كافية لشطب المجلس النيابي ودفنه حيù (إن كان حيù!!) وإلغاء دور النواب أنفسهم واعتبارهم مجرد أداة تزيينية لا تنفع في اصطناع حياة سياسية.
في كل جملة يقولونها عن التمديد أو التجديد يسقطون بعض شرعيتهم وبعض أهليتهم في التصدي للمهمات الوطنية الجليلة التي يفترض أنهم جاؤوا باسمها أو تحت شعاراتها، في هذه المرحلة الدقيقة من عمر البلاد والمنطقة العربية برمتها.
إنهم ضد علة وجودهم: الانتخابات!
وهم ضد مهمتهم الطبيعية: تجديد الدم في الحياة السياسية بما يساعد على خروج اللبنانيين نهائيù من جو الحرب الأهلية ودخولهم عصر السلام الأهلي.
إنهم، وهم الناخبون، يهربون من هذا الشرف: أن يكونوا ناخبين ومساهمين في صنع »العهد الجديد« و»الجمهورية الثالثة«!
إنهم ضد أي انتخاب بالمطلق: سواء أكان انتخابù لرئيس البلاد أم لمختار في قرية نائية!
إنهم ضد اللجوء إلى صندوق الاقتراع، ضد العودة إلى الناس ليقولوا كلمتهم في شؤون بلادهم عامة، وفي شؤون حياتهم اليومية، عبر البلديات والمختارين في مختلف مناطق لبنان.
وهم لا يخجلون ولا يدارون خيانتهم للذين شرّفوهم بأصواتهم!
ثم إنهم لا يتورّعون (خوفù أو حياء) عن كشف أغراضهم الشخصية في »التواطؤ« مع »الرئيس« على صفقة مجزية: نمدِّد لك فتمدِّد لنا، أو نجدِّد لك فتجدِّد لنا!!
إنهم يعلنون في كل ساعة خوفهم من الشعب، ويتعاملون مع نيابتهم وكأنها »أمر دبر بليل« أو »تهريبة« نجحت مرة فلا ضرورة للمخاطرة مرة أخرى،
طبعù، هذا لا ينطبق على الكثير من النواب الذين كان يمكن أن يفوزوا بثقة الناس في أي ظرف، والذين يمكن أن يعودوا إلى الناس في أي يوم واثقين من سلامة العلاقة ومتانتها..
لكن التصرفات الرعناء وغير المسؤولة التي تصدر عن ذلك »البعض« من »التمديديين« أو »التجديديين« والمعادين لكل انتخاب، تسيء إلى المجلس كمؤسسة وإلى النواب جميعù.
فانتخاب رئيس جديد للجمهورية هو الأمر الطبيعي عشية انتهاء ولاية الرئيس الحالي، وأي رئيس في السلطة: هذا ما كان دائمù، وهذا ما يجب أن يكون دائمù، والخروج عن هذه القاعدة الدستورية البديهية هو اعتداء على الدستور والعرف والقانون وإرادة الناس،
كذلك فإن التغاضي عن فضيحة الواقع المهين في البلديات جريمة تكاد تعادل الخيانة العظمى،
هل يعقل في ظل »السلم الأهلي« و»النهوض الاقتصادي« و»الاستقرار السياسي« والمباهاة بمثالية »الوضع الأمني« في لبنان أن تكون المدن والبلدات والقرى في مختلف أنحاء هذا البلد الصغير بلا مجالس بلدية ولا مختارين أو مجالس اختيارية منتخبة؟!
إن آخر انتخابات بلدية قد جرت في العام 1963، أي منذ 35 سنة بالتمام والكمال.. وهذا يعني أن الأكثرية الساحقة ممن انتخبوا حينذاك في المجالس البلدية أو المجالس الاختيارية قد انتقلوا الى رحمته تعالى وانتقلت معهم الأختام إلى القائمقامين أو إلى الذرية الصالحة من الأبناء والأحفاد!
مع ذلك فإن السادة النواب، بأكثريتهم الساحقة، يحاولون بكل السبل منع الناس من انتخاب مجالس بلدية واختيارية جديدة… والحجة المطروحة أسخف من أن تناقش: فالسادة النواب يخافون أن »تفضحهم« الانتخابات البلدية، لأن »خصومهم« المحليين هم الذين سيكتسحون المقاعد فيها!
أي أن النائب المنتخَب يتحوّل إلى قوة معطِّلة لقانون الاختيار الطبيعي: الانتخاب، ويتصدى بصدره ليمنع دخول الأجيال الجديدة الحياة العامة، وتجديد الدم في الحياة السياسية، بآلاف الشباب المثقلين بطموحاتهم إلى التغيير وتجميل مدنهم وقراهم والمساهمة في خدمة الناس بجهودهم وزنودهم وأفكارهم وأحلامهم الكبيرة.
* * *
الغريب أن هؤلاء السادة النواب يلتقون مع خصوم مجلسهم الكريم على مطلب محدَّد: إلغاء مجلس ال128 بنوابه أجمعين!
إن عتاة المعارضين يقولون بأن هذا المجلس لا يتمتع بالشرعية التي تمكِّنه من انتخاب رئيس جديد للجمهورية،
والسادة النواب لا يفعلون غير تأكيد صحة هذا المنطق حين يروِّجون للتمديد (أو التجديد) متخلّين عن دورهم (وحقهم) الطبيعي المكلفين بأدائه نيابة عن الشعب! في انتخاب رئيس جديد.
إن أولئك المعارضين يتجاوزون هؤلاء النواب وكأنهم لم يكونوا أصلاً،
وهؤلاء السادة النواب يتصرفون وكأنهم ليسوا نوابù منتخَبين بل مجرّد »موظفين« معيَّنين لأداء مهمات محدَّدة بالطلب،
إن المعارضين »يقيلونهم« من نياباتهم، في حين يبادرون هم إلى »الاستقالة« منها بالاستقالة من الدور والمسؤولية.
وفي الحالين تسقط الارادة الشعبية أرضù: مرة من »الخارج« ومرة ثانية من »الداخل«!
* * *
الغريب أيضù أن السادة النواب يريدوننا أن نصدق أن الانتخابات، أي انتخابات، هي »محنة قاسية«، أو »مشروع حرب« يفضّل تجنّبها حتى لا تلحق اللعنة بمن يوقظ الفتنة النائمة!
وهم يريدوننا أن نصدق أن »الموت« الذي يسود الحياة السياسية ويعطل احتمالات التجدّد والتغيير والاستجابة للقوانين الطبيعية، هو أقل ضررù من المقامرة بمصير المواطنين وسلامتهم إذا ما تركوا يذهبون إلى صناديق الاقتراع لاختيار من يهتم بشؤونهم اليومية في قراهم وبلداتهم.
إنهم يريدون استمرار مناخ الحرب لأنهم أبناء ذلك المناخ بكل سمومه!
وكان الأمل أن يكونوا، وبينهم نسبة ملحوظة من أبناء الفقراء وصغار الكسبة و»الطارئين« على العمل العام والسياسة خصوصù، عنوانù لمرحلة جديدة تمامù بين سماتها الخروج من الطائفية والمذهبية إلى »المواطنية«،
ولكنهم، مع الأسف، أثبتوا أنهم محافظون متشددون ومعادون للتغيير أكثر بما لا يقاس من أبناء »البيوتات العريقة« والمتحدرين من صلب الإقطاع القديم والذين يحملون »الدم الأزرق في عروقهم«.
لقد أثبت هؤلاء السادة النواب أنهم بلا دم إطلاقù،
والأمل أن يكونوا أقلية، ومجرّد تيار سلطوي هزيل، وأن يفضحهم المجلس نفسه فيكمل مهمته في تجديد الحياة السياسية في لبنان، وإلا سقط معهم أو قبلهم.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان