حتى من قبل حرب المقعد النيابي الشاغر في المتن الشمالي كان اللبناني قد أثبت لنفسه كما للعالم أنه مخلوق لا مثيل له ولا شبيه في الكون… فهو يستطيع، وببساطة مطلقة، أن يكون غابة من التناقضات المتشابكة دون أن يستشعر في الأمر غرابة، فإن استشعرها نسبها إلى فرادته ، أي إلى كونه غير شكل عن كل الناس.
إنه عالم من المزايا والتناقضات: لا يرى أي تعارض، مثلاً، بين طائفيته ووطنيته، ولا بين فرديته الطاغية وادعائه الحرص على المصلحة العامة، ولا بين الإقطاعية والتقدمية، ولا بين انبهاره بالأجنبي وإحساسه الذاتي بالتفوّق على جميع البشر، بمن في ذلك أبوه وجده وأعمامه وأخواله والخصوم طبعاً.
المخلوق اللبناني بلا ذاكرة، أو أن له ذاكرة انتقائية تعمل بالتوجيه المباشر وتشتغل حسب المصلحة ، وإلا فما معنى صمود ولائه لهذه الزعامات التي تتناسل فتتوارثه جيلاً بعد جيل؟!
تأتي على سيرة سياسي معيّن فيتبارى معك في تعداد أخطائه وخطاياه. تقول إنه سرق المال العام فيزايد قائلاً: لقد دمّر الاقتصاد الوطني. وتقول إنه تسبّب في تقسيم البلاد، فيذكّرك بأنه أشعل أكثر من حرب أهلية! وتقول إنه رهن القرار للأجنبي، فيضيف إنه مستعد لأن يدمّر الدنيا من أجل أن يشعل سيكاره.
ولأن المخلوق اللبناني بلا ذاكرة، أو أن ذاكرته تعمل بالساعة، فقد أعطيت المعركة الانتخابية في المتن أبعاداً أسطورية، فصارت فجأة معركة بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين الكرامة والارتهان، بين الديموقراطية والدكتاتورية، بين النزاهة والفساد، بين العلمانية والطائفية.
مقعد نيابي واحد في مجلس نيابي تعطله المخاصمات، وفي ظل حكومة بتراء، وفي جوٍ لا يبشّر أبدا بإمكان انتخاب رئيس جديد للجمهورية يستحق كل ذلك؟!
انقلبت المعركة، التي استدركت بعد موعدها الطبيعي بشهور، من تنافس رياضي بين مرشحين طبيعيين إلى حرب عالمية أدخلت إلى حلبتها الدول ، والمراجع الدينية، والقديسين، والدولارات، والبطولات المنسية، والشهداء الذين قتلوا الشهداء الآخرين، وضحايا تقسيم البلاد وتشطيرها إلى إقطاعيات للميليشيات والزعامات التي ارتفعت هاماتهم فوق أجداث الضحايا.
وخلال أيام من الحملة الانتخابية الضارية استمع اللبنانيون فاستمتعوا بالإهانات التي وُجّهت إليهم بالجملة والمفرّق: فهم هنا أتباع أعماهم التعصّب، وهناك رعاع تأخذهم عبادة الشخص إلى الغلط المطلق!
المؤسف أن ما يقوله الطرفان قد يكون صحيحاً، ولكن من أين نأتي بالشاهد العدل ليحسم الأمر؟!
لو كان المواطن ذلك الشاهد لاختلف سياق المعركة، بل وما قبلها من معارك… وما سيليها، وهو أخطر وأفظع!
لو كان اللبناني مواطناً ، ولو كان يتحلى ببعض البعض ممّا ينسبه إلى نفسه من صفات لما كان يورِّث أبناءه ما ورثه عن أبيه وجده من ترسبات الحروب الأهلية، التي يبدو أن لا قدرة على إغلاق أبوابها الجهنمية طالما أنه لا يحاسب نفسه، ثم أنه بلا ذاكرة، أو أنه يتخفّف منها حتى لا تكون شاهداً عليه، تدينه بتخلّفه وبتعصّبه وبطائفيته وبخضوعه لمن لا يحترم (في أعماق نفسه) من أهل الفساد والإفساد الذين يرون في أنفسهم زعامات أبدية لهذا المخلوق العجيب والفريد من نوعه، الذي يرفض أن يكون مواطناً، ويرى وطنه العالم، لكنه في قريته مجرد رعية لزعيم أو طائفة أو سفارة أو قنصلية ولو فخرية!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان