سنة بعد سنة تتعاظم آثار “النكبة” في فلسطين على مجمل أقطار الوطن العربي، بينما تكتسب إسرائيل صورة “الدولة العظمى” في الأرض العربية مشرقاً ومغرباً.
تكفي مقارنة سريعة، هذه اللحظة، بين وقائع الحياة اليومية في العديد من الدول العربية وبين ما يجري داخل الكيان الإسرائيلي لنتبين فداحة الفوارق بين الأحوال التي يعيشها “المواطن” العربي وتلك التي ينعم بها الإسرائيليون، وهم بأصول أكثريتهم الساحقة “طارئون” على الأرض الفلسطينية استقدموا بالثمن، فضلاً عن إغراء الدين، إلى “واحة الديموقراطية” في هذا الشرق الذي تخلخل الكيانات السياسية فيه مشاريع حروب أهلية مفتوحة على المجهول.
كمثال فقط: في الفترة بين دعوة الإسرائيليين إلى انتخاب أعضاء الكنيست الجديد ونجاح نتنياهو في تشكيل حكومته الائتلافية الجديدة سقط ألف قتيل عربي أو يزيد في أربعة أقطار عربية هي اليمن وسوريا والعراق وليبيا، فضلاً عن مئات البيوت التي هدمت والمؤسسات الحكومية التي دمرت، والتي احتاج بناؤها إلى عشرات السنين وإلى مئات الملايين من الدولارات، وكل ذلك في ظل أنظمة دكتاتورية لا تعترف بالمواطن وحقه في الاختيار.
وفي ظل هكذا أنظمة لا عجب ان تتعاظم قوة إسرائيل وأن يتهاوى حلم “الدولة الفلسطينية” في ظل انهيار عوامل القوة العربية، وأن تصبح “السلطة” في رام الله مجرد هيكل إداري مفلس يخضع ـ بالضرورة ـ للإرادة الإسرائيلية… خصوصاً وقد خرجت الأنظمة العربية من ميدان بناء دولها التي تفتقد الآن مقومات وجودها، بل ويندفع بعضها سراً أو علناً إلى عقد الاتفاقات مع الكيان الصهيوني بعدما سقط عامل الخوف من “الشعب” وغضبته، في ظل تحول بشائر الثورة الشعبية العربية إلى نذر متلاحقة بتفجر مسلسل من الحروب الأهلية بلا نهاية.
ولقد فقد “الاحتفال” بذكرى “النكبة” دلالاته، بعدما تعددت النكبات العربية من دون ان تكون إسرائيل بالضرورة هي السبب، بل لعل السبب الفعلي يكمن في عجز النظام العربي عن حماية الأرض التي يحكمها وأهلها، وغالباً بالحديد والنار… ثم إن معظم أهل النظام العربي منهمكون في حماية مواقعهم وأسباب تسلطهم على شعوبهم، وهي تشغلهم عن مواجهة “العدو الإسرائيلي”، وإن كان هذا العدو قد تحول إلى ذريعة لتأكيد العجز بتعظيم قوته الأسطورية ورمي تهمة التخاذل على “الآخرين” ممن يتآمرون على أشقائهم ويتناسون عدوهم أو ينسونه فعلاً.
أي فلسطين، والحديث عن تحريرها، بينما النظام في مصر، الذي ورث دولة سلطتها متهالكة ومجتمعها مدمر وهاوية الإفلاس تتهدد اقتصادها؟.. والعهد الجديد سيكون مشغولاً بهمومه الثقيلة لفترة طويلة، وهو يحتاج إلى أموال دول الخليج العربي بالقيادة السعودية، والأموال لا تعطى من خارج السياسة، والحاجة تذهب بالعنفوان وتبرر التسليم بالشروط المجحفة التي تسيء إلى الكرامة”. ولكن الرغبة في شراء الوقت من أجل النهوض قد تبرر التساهل في ما هو “معنوي” من أجل ما هو “مادي”، وضروري من أجل تأمين الخبز والماء والكهرباء لعشرات الملايين!
أي فلسطين.. وسوريا غارقة في دمائها بنتيجة الحرب بل الحروب فيها وعليها، ينتشر جيشها على كامل أرضها ليواجه معارضات شتى بعضها سوري المنشأ وبعضها الآخر مستورد، ومن قبل كانت فلسطين عنوان بنائه، وهو قد خاض فيها ومن أجلها ثلاثة حروب كانت تتطلب أكثر من قدراته..
أي فلسطين والعراق الذي دمره الطغيان ومزقه الاحتلال الأميركي يعيش حالة من الحرب الأهلية في قلب الفتنة، يفصل مسعود البرازاني كُردَه في الشمال عن بقية أنحاء العراق تمهيداً لإقامة “دولته المستقلة” تحت الرعاية الأميركية ـ الإسرائيلية واحتضان شيوخ الخليج الذين لم يعرفوا “الدولة”، وإن كانوا حالياً يتحكمون بالدول ذات التاريخ في هذا الوطن العربي المهدد الآن في هويته فضلاً عن حلم توحده ولو بعد حين؟.
أي فلسطين ونيران الحرب الأهلية تجد من ينفخ لتأجيجها في “الدول” التي تحملت في الماضي عبء المواجهة مع العدو الإسرائيلي، بينما دولة الأردن تكاد تتحول إلى حليف رسمي لإسرائيل، فهي ـ عملياً ـ شريكة في قراراته السياسية والاقتصادية، ثم إنها توظفه كجسر عبور (مموه) إلى أقطار الخليج، فضلاً عن العلاقات المفتوحة بين أجهزة المخابرات… هذا قبل الحديث عن “التكامل الاقتصادي”، وآخر انجازاته صفقة الغاز والنفط التي عقدها مع إسرائيل بأرقام فلكية ولمدة مفتوحة.
أي فلسطين وأهم الدول العربية التي كانت الأقوى، والتي استطاعت ذات يوم ان تخوض الحرب، أكثر من مرة، مع هذا العدو القومي الذي يتبدى الآن وكأنه “السيد” في هذه المنطقة هائلة الأهمية، مشغولة بإعادة صياغة دولتها.. ثم إنها مرتهنة (وكذلك الأردن ومنظمة التحرير) لشروط معاهدة كمب ديفيد، وجيشها ممنوع من دخول سيناء لحمايتها كجزء من أرض الوطن المصري، في حين تحتضن “القاعدة” ووريثتها “الدولة الإسلامية” وتحت الرعاية الإسرائيلية مجموعة من العصابات المسلحة التي تشاغل قوات الأمن المصرية، سواء داخل سيناء، وفي داخل المدن المصرية، بالتفجيرات وعمليات تصيد رجال الأمن والجيش وبث الذعر، مفيدة من المناخ المرضي الذي نشره “الإخوان المسلمون” بعد إسقاطهم من سدة السلطة.
… وفي سيناء، وعبرها، أقيمت “الأنفاق” تحت شعار “إيصال السلاح إلى المناضلين في غزة”… لكن هذه الأنفاق سرعان ما تعددت وجوه الإفادة منها، فغدت مرتعاً لشبكات تهريب السلاح وسائر الممنوعات إلى داخل مصر… وهذا ما تسبب في الإساءة إلى العلاقة بين السلطة المصرية ومنظمة “حماس” التي اعتبرت ان إقفال الأنفاق خدمة لإسرائيل، خصوصاً وقد جاء قراره مباشرة بعد الحرب الإسرائيلية الخامسة على المقاومة في قطاع غزة.
وهكذا فإن غزة تعيش منذ شهور طويلة حالة حصار قاس، يمنع عنها مقومات الحياة، ويفرض على أهلها نوعاً من الإقامة الجبرية، ويوفر لإسرائيل فرصة ان تتقدم وكأنها منظمة للإغاثة والنجدة، فتفرج عن بعض الأموال، وتيسر حركة الغزاويين عبرها.
[ [ [
ها هي دولة العدو الإسرائيلي تدخل سنتها الثامنة والستين، في حين يكاد العرب ينسون فلسطين وهم غارقون كلٌ في همومه الثقيلة.
وآخر ما حرر هذه الحرب السعودية الظالمة على اليمن، والتي استخدم فيها “العهد الجديد” في الرياض آلته الحربية جميعاً لدك المدن والقرى والقصبات وخطوط المواصلات والثكن العسكرية في سائر أنحاء اليمن، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، بعدما فرض عليها حصاراً بحرياً قاسياً. والتهمة ان إيران قد استولت على اليمن، وأنها تستخدم تنظيم “أنصار الله” كأداة للسيطرة”… وواضح ان اليمن ستكون بعد هذه الحرب أرض خراب، وهي التي بالكاد قد عرفت شيئاً من أسباب العمران، وابتنت جيشاً يُتهم الآن بالولاء للرئيس المخلوع علي عبد الله صالح.
إن السعودية تحاول، بهذه الحرب، ان تقدم نفسها، كقوة إقليمية كبرى وحيدة في المنطقة العربية، نتيجة غياب مصر في غياهب ضعفها واحتياجاتها التي وجدت فيها السعودية، وسائر دول الخليج، الذريعة لفرض هيمنتها الناعمة على الدولة العربية الكبرى التي كانت الضمانة ومصدر الحماية والدعم بمختلف وجوهه للدول العربية في عصر ما قبل كمب ديفيد.
ومن يذهب إلى اليمن محارباً أهلها الفقراء لا تخطر بباله فلسطين، وإن وجد من يذكِّره بها فإنه سيلبي النداء فينفح سلطتها مدداً بالكاد يكفي لدفع رواتب موظفيها وأجهزتها الأمنية المحكومة بالقرار الإسرائيلي.
اننا محكومون بالأمل..
وستبقى فلسطين، هي عنوان العروبة، عنوان حالة العار والهوان التي يعيشها العرب في مشرق أرضهم كما في مغاربها.
ويشهد التاريخ ان مئتي سنة من الاجتياح الغربي تحت لواء الصليبيين لم تجعل العرب، والفلسطينيين منهم أساساً، ينسون أرض القداسة،.. وهم قد عادوا إلى الميدان فحرروها بكل مقدساتها.
ولن يطول غياب العرب عن عروبتهم التي تعطي وجودهم المعنى، وعنوان العروبة: فلسطين.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان