أنت الآن في الخامسة والثلاثين من عمرك الثاني.. أي أنك تعيش زهو الشباب معتزاً بكونك قد انتصرت على الموت الأول، وانتصر معك من كان برفقتك ويحلمون حلمك، على الوجه وفي الصدر أوسمة الفوز على القتل غدراً..
كان الوقت فجراً تحاول خيوط نوره الأولى اختراق الظلام الدامس للحرب المفتوحة منذ دهر على ابناء الحياة وأحلام الغد ممن ذاق لوعة فراق الأحبة بالقتل والتهجير، قبل الحرب الاسرائيلية الاولى وبعدها…
الصمت شامل وتموز يقترب من منتصفه، وآخر احاديث السهرة الطارئة كانت تتساقط من الذاكرة كأوراق شجر الخريف لتلاعب الهواء..
ما أن ترجل من السيارة المصفحة، التي أُهديت إليه لتأمين حياته، حتى جاءته الطلقة الأولى في وجهه، وبحركة غريزية اندفع عائداً إلى السيارة يطارده وهج الطلق الثاني.. اما الطلق الثالث فانتشرت “مساميره” في صدر فؤاد، السائق والمرافق الأمين، فتجالد ورقى الدرجات إلى البيت زحفاً ليبلغ العائلة، في حين انزوى المرافق بعدما طارت شظية من رخام البوابة لتستقر في احدى عينيه..
ساد صمت عميق بعدما توقف الرصاص، ووصل اليه من في البيت من حناين الاسرة: زوجته وحماته وابنه الصغير، وبكاء الصدمة الذي خفف منه الاطمئنان إلى أن الضحايا جميعاً بخير.. برغم الجراح.
تركز الهم على نقل الجرحى إلى المستشفى.. قبل أن ينبثق ذلك الجندي المجهول من الظلمة ويتقدم متفقداً ضحايا الرصاص.. ثم متبرعاً بنقلهم إلى المستشفى متجاوزاً الشك به وبملابسه العسكرية وباحتمال وجود علاقة له مع الجناة.
بزغ فجر 14 تموز العام 1984 مضمخاً بالدم.. واهتز وجدان الناس وهبوا يستنكرون هذه الجريمة واحتشدوا من حول المستشفى في قلب باقات الورد..
أنت الآن في عمرك الثاني.
ليس سهلاً أن تستأنف حياتك وكأن شيئاً لم يكن. فوجهك ليس الوجه الذي كان قبل أن تطير اسنانك، وان تنفتح في خديك ثقوب تشهد على ما كان.. مع أن بهجتك في أن تكون حياً، بعد، تطمس الحزن وتشعرك بزهو الشهيد الذي انتصر على الاغتيال.
صارت حياتك عامة حقاً.. فكل من زارك في المستشفى، ومن استقبلك بعد خروجك منها، على الطريق إلى بلدتك، او حيثما حللت، او حتى وأنت تعبر الشارع صار شاهداً على الجريمة، بل لعله أقرب إلى القاضي في ادانة الجناة.
أنت الآن رمز الانتصار على أهل الظلم والظلام، اعداء الكلمة والرأي ودعاة الحرية والمجندين لاستقدام الغد الافضل.
لست أنت ذلك الذي كان قبل النار التي أحرقت وجهك..
صار لصدى كلماتك رقة وصية الشهيد، وهذا يحملك مسؤولية أثقل.
الشهيد لا يتحمل الحقد وان كان يرفض مسامحة الجاني، خصوصاً وانه لا يستطيع الانتقام المباشر منه.. بل هو يرفضه لأنه يضر بإنسانيته.
يكفيه أن الضربة لم تقتله وبالتالي فقد زادته قوة وإباء.
ويكفيه انه قد أبلغ من اعتبره المسؤول الاعظم وفي وجهه، انه جرب قتله ولكن قدرة الله هي من أنقذه.
لقد أسعده زمانه بأن أعطاه حياة جديدة وخبرة اوسع ونضجاً أعظم وايمانا راسخاً برسالته وشرف الحياة.. فضلاً عن اوسمة في الوجه تشهد له بشجاعته في المواجهة.
ثم أن فكره الآن اوسع، وقلمه أغزر، وجمهوره اعظم التصاقاً به لأنه يصدقه… فحبره قانٍ ولكلماته ملامح الجراح في وجهه.. وهذا يكفيه شرفاً.
زاد ايمانه برسالته رسوخاً، وهو الآن يستطيع أن يكملها، فالقلم أقوى من الرصاص، والقتلة إلى مزبلة التاريخ.
في البدء كانت الكلمة.. فاقرأ باسم ربك الاكرم، وليكن ايمانك بالناس ثابتاً لا يرتعش ولا ينقص منه غدر الخونة ورصاص السفاحين.