بين كل دورة انتخابية وأختها تكتشف الطبقة السياسية التي تحكم لبنان وتتحكم برعاياها فيه انها تحتاج إلى تغيير في هؤلاء الرعايا ليكونوا جديرين بأن تحكمهم!
ولأنها لا تستطيع ان تستبدل الرعايا بآخرين فهي تغير القانون الانتخابي الذي من شأنه ان يبدل في مفاهيمهم وفي نظرتهم إلى أنفسهم.
من أجل هذه الغاية النبيلة فلا بد ان تهتز ثقة الرعايا بوحدتهم كشعب واحد وان يعودوا إلى صورتهم الأولى، طوائف ومذاهب وأعراق وقبائل متنافرة، وأحياناً مقتتلة، فتعاد صياغة قانون الانتخاب الذي يبدل في نظرتهم إلى أنفسهم وإلى مفاهيمهم عموماً والسياسة خصوصاً.
على هذا فإن لقانون الانتخابات مهمة جليلة هي ان يهز ثقة الرعايا بأنهم شعب واحد، وبأن يثبت لهم ـ بقوة أصواتهم ـ أنهم أمم شتى، وسط سيل من حملات التعبئة الطائفية والمذهبية والجهوية والقبلية إلخ… وهكذا يندفع الناخبون وقد امتلأوا عدائية تجاه بعضهم البعض لينتخبوا المقاتلين المؤهلين للدفاع عن الطائفة في وجه الهجمة… الديموقراطية، ببدعة الانتخاب!
هكذا وبعد عشرين سنة من اتفاق الطائف، تم اغتيال ذلك الاتفاق بالعودة إلى «قانون الستين»، الذي كان بين أسباب الاحتقان الذي أسهم في تفجير الحرب الأهلية، من دون ان نغفل تداعيات اضطرار المقاومة الفلسطينية إلى الانتقال بثقلها إلى لبنان على الوضع الداخلي والحياة السياسية بكل ما تحفل به من غرائب وعجائب في ظل النظام الطائفي المنيع.
صارت القاعدة ان يكون لكل دورة انتخابية قانونها. كأنما «الناخب» يتبدل في الفترة الفاصلة بين عمليتين انتخابيتين، وهي أربع سنوات، فقط لا غير… وكأنما البلاد جميعاً تختلف فيصير محتماً ان تتبدل القوانين لكي تحيا الديموقراطية!
في لبنان، بكلمة، أطرف ديموقراطية في الدنيا. ليس لها تعريف محدد أو توصيف خاص. إنها نوع مميز واستثنائي وفريد في بابه: لا أسس واضحة، ولا قواعد ثابتة، بل ان لكل انتخابات قانونها الخاص الذي تفرضه التوازنات الإقليمية ـ الدولية… فإذا ما تبدلت موازين القوى تبدل الأداء الديموقراطي في لبنان… وهكذا عرف الرعايا اللبنانيون ديموقراطيات عدة، بينها الديموقراطية الفرنسية، ثم الديموقراطية السورية ـ الفرنسية فالديموقراطية المصرية ـ الأميركية، والديموقراطية السورية ـ السعودية تحت المظلة الأميركية… أما آخر طبعة فهي الديموقراطية الطوائفية التي أعاد استيلادها اتفاق الدوحة الذي «شطب» اتفاق الطائف عائداً بالبلاد والعباد إلى الديموقراطية الطوائفية الأولى، وهذه بدعة لبنانية لا مثيل لها ولا نظير!
مع هذا كله، كان بوسع النظام الطوائفي في لبنان ان يتباهى على سائر الأنظمة العربية بأنه «الديموقراطي الوحيد» بينها، في حين انها، إما عسكرية وإما عشائرية ـ بدوية وإما خليط مهجن من كل ذلك معاً.
حقيقة الأمر ان موازين القوى، عربياً ودولياً، هي التي كانت تسمح للنظام اللبناني ان يتباهى بديموقراطيته الفريدة في بابها… فالرئاسات والحكومات والنيابات فيه تعكس التوازن القائم في المحيط، تحت مظلة «الدول» صاحبة التأثير.
وقانون الستين أكثر من ردة: انه شطب بالأحمر لوحدة الشعب، وخطوة واسعة نحو التقسيم ونحو الكانتونات التي يجري الحديث عنها الآن علناً.
لكنه قانون دولي لا يمكن خرقه أو تجاوزه.
فالكون جميعاً يدلي بأصواته في الانتخابات النيابية… وهو قد أدلى بها سابقاً مباشرة أو بواسطة الذهب أو التهديد بالفتنة أو بهما معاً.
فالديموقراطية في لبنان فريدة في بابها: انها البنت الشرعية للأقوى إقليمياً تحت المظلة الدولية، وهي في هذا الوطن الصغير، غربية إجمالاً، أميركية في الغالب، حتى لو لفّت رأسها بكوفية وعقال مقصب.
ذلك «الأقوى» هو من يصوغ قانونها وفق توازن القوى السائد، وهو من يمسك به.
لا أهمية للمواطن، بل لا وجود له. الرعايا أصوات في الصندوقة، لكن ما يحكم النتيجة هو صراع الدول وتقاسم النفوذ بين القوى المختلفة، وهو صراع تدخل فيه مراكز النفوذ والمال والسلاح وإسرائيل.
الانتخابات النيابية في لبنان لوحة ضوئية بمواقع وحجم ونفوذ الدول المحيطة والدول المؤثرة.. وكلما كسب الأقوى خسر الشعب من أسباب وحدته. ألم يصل إلى مجلس النواب، في الدورات الانتخابية المختلفة، مرشحون لا يعرفهم أهل المنطقة التي انتخبوا فيها؟! بل، ألم يصل إلى رئاسة الجمهورية من لم يكونوا يحلمون بأن تذكر أسماؤهم كمرشحين؟!
الحديث السائد الآن عن إلغاء الانتخابات النيابية في أيار المقبل، أو تأجيلها ـ على الأقل ـ لأسباب أمنية تتصل بالداخل كما بالمحيط، علماً بأن انتخابات 2009 تمت في يوم واحد ومن دون ضربة كف لأنها كانت تحظى بتأمين دولي.
.. وقد ترجأ فلا يجد الرعايا من يسائلونه، حتى لا نقول «يحاسبونه» على الإلغاء أو الإرجاء واحتقار الديموقراطية و… إرادة الشعب!
في أي حال، فقد بات لكل مدينة أو جهة أو بلدة مهرجانها الخاص، سواء تمثل بالفولكلور وهيصة الدبكة، أم بالموسيقى الكلاسيكية أم بإبداعات موسيقى الشباب.
فلماذا لا يكون لكل منطقة أو مدينة أو جهة، والجهة أو المنطقة أو المدينة هنا تعني الطائفة والمذهب، انتخاباتها الخاصة التي تنتج نوابها الخصوصيين، ثم تكون فيدرالية المجالس، لتوكيد الخصوصية اللبنانية الخالدة: الديموقراطية بنقيضها؟!
الكل في المنطقة ذاهب إلى نوع من الديموقراطية ورعايا الطوائف والمذاهب في لبنان ذاهبون بل مدفوعون للذهاب في اتجاه كانتونات الطوائف والمذاهب التي تعني دهراً من الحروب الأهلية.
والطبقة السياسية القائمة على الأمر في لبنان قادرة على ذلك وأكثر!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان