أما وقد تغلبت الحكمة على ردود الفعل الانفعالية المتوقعة على »القصف من خارج« على المؤتمر الوطني للحوار، وعاود اليوم انعقاده بحضور أركانه جميعاً، فمن الضروري التنبّه إلى أن اللبنانيين يصعب أن يتحمّلوا انتكاسة أخرى لهذا المؤتمر الذي وجدوا فيه الفرصة الأخيرة للخروج من دوّامة اليأس التي تعصف بهم.
لا تكفي التمنيات، حتى لو شفعت بالأدعية وصدق النوايا لإنجاح هذا المؤتمر الذي يمكننا التباهي بأنه »صنع في لبنان« مع وعينا بأن »الدول« (أجنبية أساساً ومن ثم عربية) ترعاه بعين عنايتها، وتتابع وقائعه، وتجهر برفض أية محاولة لنسفه أو إجهاضه دون أهدافه المعلنة.
كذلك لا يمكن ارتهان المؤتمر للاتفاق على بند واحد من دون سائر البنود، التي هي مجرد عناوين للمسائل المتفجرة التي استوجبت الاتفاق عليه كمخرج للأطراف جميعاً، بدلاً من الاحتكام إلى الشارع بل إلى الشوارع التي كادت تتحوّل إلى ساحات مواجهة..
وليس من مؤشرات النجاح فرض البدء بوضع رئيس الجمهورية كمدخل للاتفاق على بديله العتيد، قفزاً من فوق سائر البنود، مع وعي بأنها »أوان مستطرقة« كل منها يتصل اتصالاً عضوياً بما قبله وبما بعده.
حتى إذا سلمنا بأن أكثرية اللبنانيين كانت ضد التمديد لرئيس الجمهورية، فإن هذا الموقف المبدئي لا يقود بالضرورة إلى التسليم لطرف واحد بأن يقرّر خلعه (وقد ثبت هذا عملياً، خلال سنة التظاهرات وحفلات التشهير اليومية وعرائض المتنصلين من تصويتهم بنعم..) فكيف بأن يقرّر وحده »الخلف الصالح«؟!
إذاً فالحوار في مكان والهدف منه في مكان آخر، أقله بالنسبة لممثلي الأغلبية النيابية، وإن كانوا لا يستطيعون الجهر به، بدافع الحرص على تماسك هذه الأغلبية وعدم انفراطها، خصوصاً أنها تضم مرشحين عدة يرى كل منهم في نفسه رجل العقد والحل في الشؤون المحلية والعربية والدولية..
على هذا يمكن اعتبار تصريحات وليد جنبلاط، سواء البيروتية منها أو تلك التي »قصف« بها مؤتمر الحوار من البعيد الأميركي هي التمهيد بالنار للهجوم السياسي الصاعق لاقتناص رئاسة الجمهورية، من قبل أن يبدأ الحوار الجدي لحسم المسائل المختلف عليها، والتي وإن تبدت في غالبيتها محلية فإنها جميعاً ذات أبعاد عربية ودولية، ولا يمكن عزل أي منها والبت بأمرها سراً، أو من وراء ظهر »العالم« الذي يتابع التفاصيل.
… ولقد كان كمال جنبلاط يكتفي بامتحان المرشحين للرئاسة في جلسات لا تطمس طرافتها جديتها… وكان يعرف أنه صاحب رأي ولكنه ليس صاحب قرار في تسمية الرئيس الجديد..
كذلك فقد كان رفيق الحريري يناور بأسماء عدة، ومرشحه واحد، ثم يرتضي بمن يتوافق عليه أصحاب القرار، وفيهم الأقوياء من الخارج مع حلفائهم أو أصدقائهم من أهل الداخل… مسلّماً هو الآخر بأنه صاحب رأي وليس صاحب قرار في موضوع يلخص حصيلة صراع دولي عربي شديد التعقيد، خصوصاً أنه يأتي من داخل توازن لا يشكّل لبنان نقطة ارتكازه، وإن كان فيه ومن ضمنه.
إن فرض الاتفاق على »الرئيس« كمدخل إلى التوافق على القضايا الجدية المطروحة يبدو مستحيلاً، ذلك أن هذه القضايا تكاد تشكل سلة كاملة، فكل منها متصلة بالأخرى والكل معاً يرسم خريطة »لبنان الجديد« سياسة ورئاسة وحكومة. و»السياسة« هنا تشمل الداخل والمحيط العربي والخارج. وبالتالي فإن العلاقات المستقبلية مع سوريا لا يمكن أن تكون خارجها، بل ان نتائج هذا المؤتمر تتوقف إلى حد بعيد على الانتقال بهذه العلاقات من حال التوتر (على حافة الحرب) إلى حالة تهدئة تمهّد لاستعادتها طبيعية بعد الزلزال الذي ضربها فعطلها خلال العام الماضي. فالعلاقات مع سوريا شأن داخلي وليس خارجياً.
ثم إن على الطاولة ذاتها أكثر من مرشح للرئاسة، وفيهم من يملك حق الاعتراض بقوة تمثيله الذي يصعب تجاهله، خصوصاً أنه طرف في تفاهم مع الأقلية المعطِّلة لأي اتفاق يتجاهلها أو يحاول القفز من فوقها.
إنه ليس مؤتمراً يمكن تلخيص أهدافه بشخص الرئيس المقبل.
إنه مؤتمر من أجل رسم صورة لبنان الجديد، بعلاقات القوى السياسية داخله، وبعلاقاته مع الخارج بدءاً بسوريا وانتهاءً بها، خصوصاً أن »العرب« معنيون بهذا الأمر لأنه يمس استقرارهم جميعاً بقدر ما يمس استقرار لبنان في غده الذي ينظرون إلى هذا المؤتمر على أنه »قابلته القانونية« المفوضة منهم.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان