لولا الخوف من تهمة المبالغة في الاستنتاج أو الإساءة إلى إنجاز التحرير، لأمكن القول إن الاحتلال الإسرائيلي ما زال قائماً، وان للعدو فوق الأرض اللبنانية، بعد، حوالى مئة وثلاثين ألف »جندي« بل »قاتل محترف وغير مُكلِف« على شكل ألغام مزروعة في مختلف أرجاء المنطقة التي كانت محتلة!
فأن يكون الاحتلال قد خلّف وراءه مئة وثلاثين ألف لغم يعني أن تلك الأرض المزروعة بأفخاخ الموت لم تتحرّر بعد، وأنها ما زالت رهينة في يد العدو، وأنها حتى إشعار آخر مصيدة مفتوحة لاغتيال الفلاحين والعمال وتلامذة المدارس والأمهات، فضلاً عن المواشي والأشجار والاستقرار وراحة البال!
بعد التحرير بأسابيع، وزعت الأمم المتحدة خبرا مفرحا عن وصول المنقذين الأشاوس من أوكرانيا، وفتحت الصحف صدر صفحاتها الأولى لهؤلاء الخبراء الدوليين الآتين بلباسهم الأسود وعيونهم اليقظة، وبشّرت الناس بأن موعدهم مع الأمان قد حان وأن فرحتهم بالتحرير ستكتمل!
وأمس، على وجه التحديد، بثت شبكات التلفزيون الأرضية والفضائية، المحلية والدولية، صوراً لهؤلاء الجنود الفقراء، الآتين من البعيد لاصطياد الألغام، كخبراء متميزين، لا شبيه لهم ولا نظير، فإذا هم بشر مثلنا، وإذا تجهيزاتهم بسيطة جدا، وإذا قدرتهم على الإنجاز محدودة بحيث إذا كانوا وحدهم سيتولونها فسيكون علينا أن ننتظر عقودا طويلة نشيّع خلالها مئات وربما آلافا من الأطفال والنساء والرجال في الجنوب المحرَّر.
لا يمر أسبوع إلا ويفقد أبناء القرى المحررة واحدا أو أكثر من أبنائهم يمشون خلفه متحسرين إلى مثواه الأخير، بغير أن يُحتسب في عداد الشهداء، نتيجة انفجار لغم من تلك الآلاف المؤلفة من الألغام الإسرائيلية المزروعة في كل مكان، والتي لا يمكن للرفاق الأوكرانيين، المحدود عددهم والبدائية تجهيزاتهم، أن ينزعوها أو يعطلوها في المدى المنظور!
لقد أعطى العالم الإسرائيليين شهادات حسن سلوك نتيجة التزامهم تعهدهم بالانسحاب خلال أيار الفائت، وقد يعطي إيهود باراك جائزة نوبل للسلام إكبارا وتقديرا لوفائه بالوعود.. بما في ذلك الانتخابية منها، والانصياع لإرادة جبابرة الأمم المتحدة من كوفي أنان إلى… لارسون.
بمعنى آخر، فهو أعطاهم براءة ذمة مسبقة وأسقط عنهم المسؤولية عن دماء اللبنانيين الذين سيسقطون صرعى ألغامهم المبثوثة في المزارع، وعلى الطرقات الفرعية المتربة، وفي الأحراج، وعلى ضفاف السواقي، وعند الينابيع، وفي كل مكان كانوا يشتبهون بأن مجاهدي المقاومة قد يستخدمونه معبراً أو ملجأً أو مكمناً لجنود الاحتلال!
إن هذه الألغام أخطر من جنود الاحتلال نفسه… إذ كان يمكن معرفة مواقع العدو، ومساقط قذائفه وصواريخه، وكان يمكن تحاشي المرور في الطرقات التي تستخدمها آلياته.
أما الألغام فلا خرائط تفصيلية لها ولا دليل، ويتعذر تنظيم »مقاومة« لها، تجبرها بضغط الدم على الانسحاب.
مع ذلك، فالأمم المتحدة، بقيادة الولايات المتحدة، لا تبدو معنية بإزالة مكامن الموت الإسرائيلي القائمة بعد تحت أقدام اللبنانيين… وهي تتصرف وتتحدث وكأن إسرائيل قد أنجزت ما عليها ووفت بكل وعودها وتعهداتها، وأن لبنان هو المقصّر والمهمل بل والمفتري بسبب من تمسكه بمزارع شبعا، وعدم اجتثاث »حزب الله« من المنطقة المحررة، وتقاعسه في نشر جيشه بالقطار الأحادي على طول الحدود اللبنانية الفلسطينية (الافتراضية).
(هنا يمكن الاعتذار بأننا لا نملك جنودا بعدد الألغام، حتى لو أرسلنا الجيش كله ومعه قوى الأمن والدفاع المدني والإسعاف والمطافئ والعاملين في »الأجهزة« جميعا..).
في المعلومات، أن الخبراء الأوكرانيين، وعددهم تحت العشرين، لا يمكنهم إنجاز المهمة المستحيلة التي كُلِّفوا بها، لا سيما إذا لم تُعزَّز أعدادهم ولم يُزوَّدوا بالآليات الحديثة وبالتجهيزات الضرورية لكشف الألغام وتعطيلها أو إزالتها.
إن الألغام الإسرائيلية المزروعة في الأرض اللبنانية »قضية« سياسية من الدرجة الأولى وليست تفصيلاً أمنياً، كما إنها ليست ذريعة تنفع في المماحكة السياسية.
إن أبناءنا يموتون كل يوم بأسلحة القتل الإسرائيلية.
إن أرضنا ما زالت رهينة في يد العدو الإسرائيلي.
لقد رحل جنود الاحتلال المرئيون، وبقي الجنود المموّهون. بقي الموت الإسرائيلي.
وإذا كان من الظلم اتهام الأمم المتحدة ومن يسيّرها، بالتواطؤ، فلا أقل من اتهامها بالتقصير والإهمال والتباطؤ في تنفيذ الموكول إليها والذي يدفع المجتمع الدولي كلفته بملايين الدولارات ليس بينها دولار واحد يُدفع تعويضاً لشهداء الألغام الإسرائيلية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان