بعدما داخ الوزراء من الجلسات المتعاقبة لمناقشة موازنات الثلاثين وزارة، فضلاً عن المجالس والمصالح المستقلة وسائر المؤسسات، تمكنوا من الوصول إلى صيغة وسطى مليئة بالتشطيب والاضافة والحذف بالإكراه.
…وبعدما سقط اهتمام الناس بهذه الموازنة والنقاش المفتوح والمجادلات داخل مجلس الوزراء، وزعل البعض، وتبرع بعض آخر بدور “الوسيط” الشاطر بتدوير الزوايا،
.. وبعدما فقد الجمهور اهتمامه بهذا الجدل البيزنطي الذي عكسته المواقف المتناقضة لوزراء في حكومة واحدة، وتطمينات رئيس الحكومة في خطبه الرمضانية، وتأكيدات رئيس المجلس النيابي حول سلامة اوضاع الاقتصاد الوطني، وأخيراً البشرى السارة التي أطلقها حاكم مصرف لبنان، عشية جلسة الحسم في القصر الجمهوري، التي اعترضتها بعض التظاهرات عند مدخل القصر الجمهوري،
بعد هذا كله، وفي جلسة مختصرة لمجلس الوزراء، وهذه المرة، برئاسة الرئيس عون، أقر هؤلاء جميعاً الصيغة النهائية للموازنة التي سيمزقها بعد يوم، او يومين، او ثلاثة، مجلس النواب، بعد أن يعمل فيها تفتيتاً وتدقيقاً، متسائلاً ليس فقط عن وجوه صرف الموازنة، بل اساساً عن سبل توفير المال المطلوب، بآلاف المليارات، لإنفاقه..
ولسوف يُحاصر المجلس النيابي في الايام التالية، بالتظاهرات التي تجمع بين اساتذة التعليم الرسمي وطلابهم، والعسكريين المتقاعدين ضباطاً بلغوا الذروة في الجيش وقوى الامن الداخلي، ورتباء وانفاراً على باب الله.
أما في الداخل، فلسوف تنشب حروب ضروس ومعارك جانبية شديدة الوطأة، ولسوف تعلو اصوات النواب متهدجة، ولسوف يتطرف بعضهم فينعي “الدولة” التي تودي بها مثل هذه السياسات الخرقاء، وقد تنشب معارك وصدامات مباشرة بين المؤيدين والمعارضين، بينما مطرقة الرئاسة تقرع بلا صدى..
ثم … تُقر الموازنة العتيدة بأصوات الاكثرية التي لا تملك خياراً لان “زعاماتها” قد قررت سلفاً الموافقة على موازنات حكومة الكل، ذلك أن الكتل النيابية لا تملك قرارها.. فلكل كتلة رئيس، وهذا الرئيس قد اختار وزيراً أو بضعة وزراء في الحكومة ـ المعجزة، اذ تصالح من اجلها المختلفون، وتعانقوا علناً، وتعاهدوا على اكمال المسيرة معاً، مهما كانت الصعاب، وذلك بدافع الغيرة الوطنية، والحرص على مصالح البلاد..
بل أن ذريعة جديدة طرحت في السوق للاستهلاك السياسي، خلاصتها الحرص على قيمة النقد الوطني وعدم تدهورها اكثر فأكثر.. خصوصاً وان الشائعات قد فعلت فعلها في “الشارع”، فاختفى الدولار، بمثل السحر، وتم التداول بانه سيرتفع عما قريب إلى مستويات قياسية، وان موسم الاصطياف مجرد شائعات فلن تأتي “الكفافي والعقل” إلى الوطن الاخضر، ولن يذهبوا إلى “جارة الوادي” ـ زحلة ـ التي غناها محمد عبد الوهاب بشعر احد شوقي، ولا إلى ضهور الشوير التي وصفها بعض قاصديها من الاخوان المصريين بقوله: هنا يحس واحدنا انه جار السما..
“لبنان يا قطعة سما”.. بدأ يهبط إلى الارض، بلا مظلة!
أما الرؤساء والوزراء والنواب فيروجون أن هذا الهبوط الاضطراري هو مجرد خدعة لاستجلاب المستثمرين، اساسا، ومن ثم المصطافين..
وبالله المستعان!