عشت بعض سنين حياتي بين العرب. قابلت سياسيين من كل لون وطعم ورائحة. قابلت سياسيين في الحكم وسياسيين في المعارضة. سمعت من كبارهم وصغارهم على حد سواء نظريات في التقدم والمستقبل تفوق في العدد وسعة الخيال كل ما سمعت من أقرانهم في دول أخرى زرتها. رأيتهم وهم يحتفلون بانتصارات بعضها من صنع خيال إعلاميين وخيالهم، ورأيتهم في لحظات انكسار. كنت شاهدا على شعوب مؤمنة بما اختاره حكامها وشاهدا أيضا على شعوب، وأحيانا هي نفسها، غير راضية عن حكامها وأحيانا عن نفس الحكام الذين سبق وحصلوا على الرضا.
جاء وقت عرفت فيه كثيرا من السياسيين في الحكم أو خارجه يخفون عن عمد هوياتهم الأولية أو عن حق لا يهتمون بها. قليلون، باستثناء ساسة لبنان، كانوا واثقين من أن التمسك بالهويات الأولى في خطابهم السياسي أو في تصرفاتهم الشخصية عقبة في وجه صعودهم. للحق يجب أن نعترف أن معظم سكان هذا الإقليم اختاروا في لحظة معينة صفة العروبة تأكيدا لنيتهم الاستقلال عن النفوذ التركي المنكسر على كل حال وصدا للنفوذ الغربي الزاحف بإصرار والمحتل أراضيهم. اجتمع هؤلاء السكان على أن تكون صفتهم عربية وقرر الحكام في لحظة تاريخية أن يقيموا منظمة إقليمية تحمل هذه الصفة تأكيدا لالتزامهم هذه الهوية. خافوا على استقلالهم الوليد وسلطتهم فوضعوا في مواثيقها وتقاليد عملها عديد القيود التي تضمن بقاءها عند الحد الأدنى، لا تتجاوزه. لم تخيب الجامعة العربية آمال الأباء المؤسسين وبخاصة أملهم في أن تكون لدولهم صفة أوسع أو أكبر من الصفات التي فرضتها عليها ظروف جغرافية واجتماعية محلية.
اليوم، ورغم جهود محمودة من جانب قيادات فكرية بثت خلال مسيرتها في عروق الأمة صدقية دولية وجهود أيضا محمودة من جانب قيادات إدارية وتنظيمية حافظت على وجود المنظمة وحاولت بكل الصبر والاقتناع خلق مصلحة لدى الدول الأعضاء في استمرار هذا الوجود، أستطيع القول أن الجامعة تمر الآن رغم كل الجهود الصادقة في مرحلة صعبة أعتقد أنها لن تخرج منها سليمة. تأكدنا ونحن نراقب انحدارها على مر السنوات الأخيرة أنها لم تكن مزودة بالحصانة اللازمة للتعامل مع أوضاع خلفتها أحداث الربيع العربي. “المشهد العربي” كله يؤكد أن الدول العربية، أو أغلبها، واجهت أو ما زالت تواجه صعوبات جمة في التعامل مع التغيرات التي تسببت فيها هذه الثورة والأعمال والسياسات والحروب المناهضة لها، ويؤكد بالتالي خطورة الشروخ التي أصابت مختلف المنظمات الإقليمية بل والعمل العربي المشترك بشكل عام. وقد تظل نقطا سوداء محفورة في تاريخها الأدوار التي أجبرت على القيام بها ضمن ردود الفعل غير المحسوبة جيدا من جانب عدد من الدول العربية.
ومع ذلك استمرت الجامعة العرببة موجودة وإن محددة الوظائف ومقيدة التصرفات ولكنه الاستمرار الذي يحمل في طياته مختلف الاحتمالات، هي احتمالات معتمدة على احتمالات مماثلة بدأ بعضها يواجه النظام الإقليمي نفسه. سمعت مسؤولين من العرب يحتجون على كثرة تردد سؤال بعينه من باحثين وإعلاميين. هؤلاء يسألون عن موقف الدول العربية من الجامعة العربية في حال وجدت هذه الدول مصلحة لها في أن تكون لاعبا في نظام إقليمي آخر، شرق أوسطي مثلا. أو في حال قررت إقامة مشروعات تكامل اقتصادي دولية أو إقليمية تأتي على حساب مشروعات تكامل عربي وإن متوقفة. أو في حال الدخول في حلف عسكري أو نزاع مسلح طويل الأمد مع دول من خارج المنظومة العربية وينتج عنه تهديد مباشر لأمن واستقرار دول أخرى في داخل هذه المنظومة، دول لم تستشر ودول لم يحسب حسابها.
***
إقامة نظام إقليمي جديد أو تحديث نظام قائم مهمة ليست هينة ولدينا في تجربتي الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي ما يكفي لإقناع المترددين. مبدئيا يحتاج الأمر إلى تحقيق شروط من بينها ما هو غير متوفر في الوقت الراهن ولن يتوفر بالبساطة التي توفر بها عند إنشاء جامعة الدول العربية. من هذه الشروط :
أولا: وقف الاشتباك الناشب بين الهويات لصالح هوية النظام الجديد قبل الانضمام إليه. لن ننسى أن العرب أجمعين دفعوا ثمنا باهظا حين أدى الاشتباك العنيف بين هويتين في العالم العربي خلال الحرب الباردة العربية بين من سموا وقتها بالتقدميين والمحافظين إلى شل الجامعة العربية وتعطيل مسيرة التكامل والأمن القومي.
ثانيا: استعادة كينونة الدولة وثقتها بنفسها ومستقبلها وكلها أضيرت في مرحلة العولمة ضررا جسيما. كادت الدولة منذ ذلك الحين تفقد سيادتها على أراضيها وشعبها ومصالحها ففقدت أو كادت تفقد بالتالي ثقتها في الآخر وفي أي مبادرة تقترح التنازل عن جزء من السيادة في سبيل أمن أو رخاء أوفر.
ثالثا: وقف تخبط أو تضارب السياسات الاقتصادية للدول المرشحة لعضوية النظام. لقد كان من أسباب ضعف النظام الإقليمي العربي وانحداره المتسارع في السنوات الأخيرة تنفيذ دولة أو أكثر مشاريع إصلاح اقتصادي اعتمدت التقشف وتوصيات المؤسسات الدولية وبالتالي أثرت سلبا على برامج التعاون الإقليمي ومشاريع البنية التحتية في العالم العربي.
رابعا: الانتباه إلى ضرورة تسوية النزاعات بين دول الإقليم، وبخاصة تلك النزاعات التي تثير قضايا هوية أو مشكلات تتعلق بظروف النشأة. لم ينهض النظام العربي بمسؤولياته ولم يحقق الأحلام التي ألقيت على عاتقه بسبب اعتقاد بعض الحكام في أحقيتهم في التدخل في شئون دول أخرى، وبدعوى أنهم أقدر وأكفأ أو بدعوى التزام رفعة الدين أو قدسية الرسالة القومية.
خامسا: تفادي عسكرة النظام الإقليمي الجديد أو القديم في حال اتخذ قرار تجديده. أقصد بالعسكرة انشغال حكومات هذا النظام الإقليمي بدرجة فوق المألوفة بالأمور العسكرية مثل سباقات التسلح وبناء جيوش المرتزقة والتدخل عسكريا خارج الحدود والسماح لدول أجنبية بشن حروب بالوكالة أو حروب مباشرة كالحرب على العراق باعتبارها النموذج الأمثل على حرب كادت تودي بنظام إقليمي إلى الفناء. المقصود بالعسكرة أيضا الأعمال الحربية وسباقات إقامة القواعد الجارية في القارة الأفريقية، وجميعها شرط كاف لإفشال النظام الأفريقي وإحباط منظمته الإقليمية. أقصد بالعسكرة أيضا المبالغة في توظيف واستخدام قوى الأمن الداخلي إلى الحد الذي يتوقف عنده تلقائيا أو غضبا أو قسرا العمل المدني. أظن أنه بات مفهوما أنه لا فلاح لمشروع تكاملي أو تحديثي لم يبذل فيه العمل المدنى الجهد المناسب والإبداع العلمي الضروري. بات مفهوما أيضا أنه لا انتصار نهائيا وحاسما في مشروع لم يشترك في التحضير له العمل المدني وبخاصة السياسي.
سادسا: قام النظام الإقليمي العربي في حماية أو بسبب وجود توازن قوى إقليمي. وأظن أنه لن يقوم بعده أو في محله نظام إقليمي جديد أو نظام عربي مجدد إلا عندما يقوم ويتأكد توازن قوة بين قوى النظام. أزعم أن هذا التوازن الذي يمكن أن يكون بمثابة الأساس غير موجود حتى الآن، لم يقم وإن تعددت المحاولات وأغلبها باء بالفشل.
***
أسئلتنا إلى المسؤولين عن مستقبل النظام الإقليمي العربي وجامعته العربية كثيرة وصعبة. بأي حال لا يجوز أن تكون كثرتها أو صعوبتها عذرا يمنع المصارحة حول آمال الطبقة السياسية العربية في مستقبل النظام العربي، بمعنى آخر عذرا يمنع الحديث المكشوف عن مستقبل العرب، مستقبلي ومستقبلك.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق