أكثر ما يحتاجه اللبنانيون، في هذه اللحظة، أن يسمعوا ما يطمئنهم إلى أن معركة التمديد قد انتهت فعلاً، وأن العمل جار لتعويض الخسائر التي تكبدوها خلالها، ولمنع الانزلاق إلى مواجهات جديدة، في الداخل أساساً، توفر مزيداً من الذخيرة لحرب الخارج..
إنهم يريدون أن يطمئنوا إلى أن معركة التمديد، بكل ما تسببت فيه من خسائر معنوية أصابت لبنان ومعه سوريا، كانت ضرورة لتجنب تلك الحرب الدولية ولن تكون مدخلاً إلى عودة لبنان إلى حومة الصراع الدولي بكل انعكاساته الثقيلة على أوضاعهم الهشة، والتي سبق لهم أن خبروها طويلاً ودفعوا تكاليفها غالية من وحدتهم ومن هناءة عيشهم ومن مستقبل أبنائهم.
ولن تخفف مظاهر الابتهاج المنظم التي ضجت بها جنبات القصر الجمهوري، أمس، من شعور اللبنانيين بالضيق الشديد ومن تخوفهم من نتائج هذه المواجهة التي يرون أن أكلافها أعظم بما لا يقاس من أرباحها.
ولن تنجح مقاومة قرار مجلس الأمن 1559 بالسيف والترس والدبكة وردات الزجالين، سياسيين منتفعين وشعراء مناسبات يحترفون امتداح أصحاب السلطة والمال (على الضفتين!!)..
ومن رأى في بيان الدعوة إلى المصالحة الذي أُصدر باسم رئيس الجمهورية، صباح السبت، مؤشراً إلى مرحلة جديدة لا مخاصمات فيها بالكيد، ولا محاولات لإلغاء المختلفين معه، ولا إصرار على التفرّد بالسلطة، تخوفوا من أن تكون تظاهرة الفرح المنظم إلغاء لمضمون البيان الذي يصلح خطوة أولى على طريق طويل لا بد من تأكيد الالتزام بالسير عليه كل يوم بحيث يصبح نهجاً، ويخرج من دائرة المناورة أو محاولة كسب الوقت.
لقد انتهت جولة (داخلية) في حرب طويلة بنصر ملتبس، سيتوجب فيها على لبنان وسوريا أن يواجها قوى دولية عاتية، تصوّر احتلالها للعراق تحريراً وتصوّر تدخلها الفظ في الشؤون الداخلية اللبنانية توطيداً لسيادته وحماية لاستقلاله، وتصور عداءها المعلن لأقوى تنظيماته الشعبية (حزب الله) مساعدة للبنانيين على التخلص من »الإرهاب«، تماماً مثل تحريضها ضد الفلسطينيين اللاجئين إليه منذ نصف قرن أو يزيد، نتيجة الاحتلال الإسرائيلي لبلادهم.
لقد بدأ »نصف الولاية« بإنذار بحرب دولية تتجاوز أهداف المعارضة المحلية إلى ما يهدد سلامة البلاد، بدولتها وشعبها وعلاقاتها الوثيقة والضرورية والتي لا غنى عنها مع سوريا…
ونحب أن نفترض أن الرئيس اميل لحود يعي تماماً أن التصرف كمنتصر بالتمديد »خطيئة مميتة«، أو بمعنى أدق »خطأ سياسي« فادح لا يستطيع لبنان تحمل كلفته، ولا يجوز أن يكون فخامته سبباً في تحميل سوريا فوق ما تكلفت فعلاً، وربما فوق ما تطيق، في معركة تموَّه شعاراتها بحماية الشرعية والدستور في لبنان بينما أهدافها الفعلية احتواء لبنان وسوريا في مخطط هيمنتها على المنطقة، إن لم يكن على الطريقة الإسرائيلية في فلسطين فعلى الطريقة الأميركية في العراق.
بالمقابل نحب أن نفترض أن المعارضة السياسية في لبنان تدرك خطورة الوضع الذي نواجهه في لحظة الاحتدام هذه، وأنها أضعف من أن توظف هذه الحرب الدولية لحساباتها المحلية، في صراعها على السلطة.
إن في المعارضة التي تسترشد، أساساً، بآراء غبطة البطريرك الماروني، من العقلاء وأصحاب التجربة العريضة وأصحاب الخبرة في صراعات الدول، ما يمنع الافتراض أنها ستتحول إلى »مروّجين« للتدخل الدولي، يستخدمها في التدليل على صدق عواطفه تجاه الاستقلال والسيادة والشرعية والديموقراطية في لبنان.
لقد عرف لبنان، في مراحل مختلفة من دهر حربه الأهلية/ العربية/ الدولية، أنماطاً من المعارضات القصيرة النظر، أو المتلهفة للوصول إلى السلطة، أخذها الخطأ في التحليل أو في تقدير قوتها أو في الثقة في الأجنبي إلى السقوط في شبكة القوى الدولية القادرة على توظيفها لحسابها، والافادة من اعتراضها لأهداف تتجاوز ما تطلبه أو حتى ما تتمناه…
وفي دروس الحرب الأهلية ما يكفي لترشيد عقلاء المعارضة، وبعيداً عن صخب المتعجلين انفجار الوضع، بزعم أنه سينفجر في وجه سوريا وحدها (؟) والذين سيتحولون إلى مجرد أدوات في خطة لا علاقة لهم لا بمنطلقاتها ولا بأهدافها الفعلية.
* * *
لقد قلنا للعالم عبر مجلس الأمن: إن لدينا إشكالات داخلية نقدر على حلها بالوفاق ومن دون أي تدخل خارجي، بل إن مثل هذا التدخل الفظ الذي مارسه الأميركيون أساساً ومعهم الفرنسيون، يعقد المسألة ويمنع الحل بل قد يدفع بالبلاد إلى أتون حرب أهلية.
والرئيس لحود، بالذات، يعي هذه المشكلة وأسبابها… بل إن البعض يتهمه بأن تفرده، في كثير من الاحيان، واستغناءه عن الآخرين، واسترابته في كل السياسيين، كل ذلك ساهم في تعقيدها، وفي منع علاجها باعتماد نهج المصالحة الوطنية الشاملة، وإشاعة مناخ من الوئام يسهل على الحكم معالجات الازمات الحادة التي تعيشها البلاد، سياسياً، واقتصاديا (تحت وطأة الدين العام وفوائده التي تستهلك اي قدرة على النمو، فضلا عن توفير حلول للمعضلة الاجتماعية، كافتقاد فرص العمل، وهجرة الشباب، وانحراف العاطلين الذين تتزايد أعدادهم بوتيرة مخيفة…).
وعلى الرئيس لحود، بالذات، وهو الممددة ولايته لثلاث سنوات اضافية، ان يعمل اقصى ما في وسعه، لترسيخ الوفاق الوطني، بالمساهمة في حل الاشكالات والاعتراضات (وبعضها جوهري) وإثبات اهليتنا على تسوية مشكلاتنا الداخلية ذاتياً ومن دون تدخل اجنبي.
وعلى الرئيس لحود بالذات ان يسعى جاهداً، وعبر حكومة جديدة تأتي بعد استقالة الحكومة القائمة، المتهمة بأنها استولدت خلسة وعاشت حتى اليوم بلا أب يشهد لها بشرعيتها، وظل ممنوعا على رئيسها ان يستقيل وممنوعاً عليه ان يمارس صلاحياته، إلى تحويل مضمون »رسالة المصالحة« التي اطلقها امس الاول، الى برنامج عمل ملزم له أولاً، ثم لمجلس الوزراء المقبل، الآتي لمهمة استثنائية.
إن على الرئيس لحود ان يرد التحية بأجمل منها، للبنانيين الذين سلموا له بمد ولايته ثلاث سنوات، وللسوريين الذين كادوا يدخلون في مواجهة مع العالم، من اجل إتمام هذه العملية، وذلك بأن يفيد من المرحلة الجديدة برعاية كل ما يمكّن من تعزيز الجبهة الداخلية: بدءا بإشاعة مناخ المصالحة، ثم توطيده بحكومة قادرة ومؤهلة على الإنجاز، وقانون انتخاب ينهي عصر المحادل والبوسطات وفرض نواب لا يمثلون ناخبيهم، وإصلاح إداري شامل وتحرير القضاء مما يكبله من قيود هي سياسية اولا وأخيراً.
وثمة ملاحظة لا بد منها: ان الرئيس لا »ينتصر« في الحرب الدولية بمثل هؤلاء الذين حشدوا بالمصلحة أو بالنفع المباشر في القصر الجمهوري أمس.
ولا المعارضة »انتصرت« او يمكن ان »تنتصر« بقرار التدخل الدولي في الشؤون الداخلية او بالعلاقات المشتركة بين لبنان وسوريا، والتي يعترف اطرافها جميعا بالحاجة الى تعزيزها بتصحيح وجوه الخطأ فيها، وهي كثيرة وتتعدى الاطار الأمني الى ما فيه خير اللبنانيين والسوريين معاً من المصالح المشتركة.
إن مجرد قراءة سريعة لمحضر المناقشات في مجلس الأمن عشية اصدار القرار 1559 تكشف طبيعة ما كان مدبراً للبنان وسوريا، مما أمكن تعطيله، ولو مؤقتاً، وما سوف تعود الادارة الاميركية ومن معها إلى تمريره عند إي خطأ فادح قد يرتكبه الحكم في لبنان.
إن الحكم يكاد يكون تحت وصاية دولية، الآن…
فضلاً عن كونه تحت رقابة شعبية مباشرة لا تقتصر فقط على المعارضين، بل لعل من وافق على التمديد سيشارك فيها بشكل جدي، حرصاً على أن يعود الى المجلس النيابي الجديد، بعد تسعة شهور.
إن الفشل في الداخل يعني المساهمة في إنجاح التدخل الدولي.
ولن يكون مثل هذا الفشل نصراً للمعارضة، بل سيكون أخطر من ذلك بكثير: سيكون محاصرة لبنان ومعه سوريا في دائرة الخطر، وسيف التهديد بالتدخل الدولي فوق رأسيهما معاً.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان