للوهلة الأولى تبدو صورة الوضع في لبنان كاريكاتورية، مسلية بطرائفها التي تكتسي مسوح السخرية السوداء وهي تعكس البؤس السياسي الاقتصادي والاجتماعي.
أما للوهلة الثانية فتبدو هذه الصورة مأساوية، خصوصا وأن الوجه الآخر للطرائف يعكس حقائق مهينة أو مشينة من الصعب احتمالها،
وفي الحالين فإن »التوقيت« يعطي هذه الصورة أبعادها الخطرة، إذا ما تمت المقارنة بين ما يجري في لبنان وله، وما تقوم به إسرائيل وتخطط له، داخل الأرض الفلسطينية المحتلة وخارجها.
في لبنان: تتصدع الرئاسات ويواجه بعضها البعض الآخر بالاتهامات والاتهامات المضادة، وكلها خطير، ويهدد الوزراء الشعب بالاضراب عن »العمل« طالما استمر »الاضراب« عن دفع المخصصات، الاستثنائية منها والعادية، وينذر المأزق الاقتصادي بالتفجر، لا سيما بعد تمركز الصراعات السياسية فيه ومن حوله.
أما في إسرائيل: فتمضي حكومة التطرف بقيادة بنيامين نتنياهو في خطتها لتوسيع المستوطنات ليس فقط في الضفة الغربية المحتلة، بل كذلك في هضبة الجولان السورية المحتلة، رافضة »النصائح« و»الرجاءات الحارة« وبيانات التنديد »الودية« التي صدرت عن كل من واشنطن ولندن وباريس وموسكو وسائر عواصم الدنيا.
لا يداري نتنياهو ولا يحاول تخفيف الصدمة، بل يعلن جهارا نهارا أنه إنما يوسع مستوطنة كاتزارين في الجولان المحتل لأهداف سياسية، طاوياً بشكل عملي صفحة التمني الأميركي والمطالبة الأوروبية الملحة والرغبة العربية المعلنة في الإبقاء على »العملية السلمية« على قيد الحياة، حتى لو كانت ميتة طبياً.
وفي حين يعلن وزير خارجيته ديفيد ليفي ان الخلاف مع واشنطن حول توسيع المستوطنات ليس أكثر من »زوبعة في فنجان«، فإن نتنياهو يعتبر ان هذا الاجراء الذي يقبر اتفاق أوسلو (فعلياً) ليس أكثر من »نمو طبيعي« في حركة العمران، كالذي يشهده العالم العربي ولا يعترض عليه أحد!
لكأنه يبني على أرض ورثها عن جده أو اشتراها بحر ماله، ومن أجل ضروراته العائلية في ملكه الشرعي!
المفارقة مفزعة، بين ما يجري في لبنان على المسرح المكشوف أمام الرأي العام المحلي (ومن ثم العربي) وما تقوم به إسرائيل فوق الأرض العربية المحتلة وفي مواجهة ما يسمى »الرأي العام الدولي«،
وبعيدا عن التعابير الأخلاقية، كالإشارة الى الشعور بالمهانة الذي يجتاح اللبنانيين، فإن الأزمة الاقتصادية الحادة التي بلغت ذروة تجلياتها السياسية »بالفضيحة الديموقراطية« في مجلس الوزراء يوم الأربعاء الماضي وما يحدث حتى الساعة، قد جسمت مخاوف المواطن اللبناني من انهيار عملته مجددا، كإعلان عن انهيارات كارثية في اقتصاده الوطني كله.
في لبنان تعجز حكومة يفترض أنها لا تضم إلا »رفاق الصف الواحد« عن الاتفاق على سياسة موحدة للاقتراض والضرائب والرسوم، ومن قبل على الانماء المتوازن والأولويات (التي يفترض أنها اتفقت عليها عند تشكيلها)، ويُشعل كل طرف البنزين تحت مقاعد الطرف الآخر، بما يهدد بإحراق كل المنجزات والوعود والخطط والأحلام،
وفي إسرائيل تمضي حكومة غير موحدة الرأي أصلاً، وتضم خليطا متنافرا من المهووسين بالحرب، الكارهين بعضهم بعضا، المختلفين على كثير من الأساسيات، في مواجهة العالم كله بخطط توسعها فوق الأراضي العربية المحتلة،
هناك يجمدون خلافاتهم الداخلية، عقائدية ودينية وسياسية وعسكرية، لحماية المشروع الأمبراطوري الاسرائيلي والمضي قدما في تنفيذه على أرضنا،
وهنا تتفجر الخلافات بين »المتفقين« سياسيا فتكاد تذهب بالدولة قيد التأسيس، اقتصادا ومؤسسات ديموقراطية ومجتمعا لما يستعيد وحدته التي صدعها دهر الحرب، ناهيك بالأرض التي ما زال بعضها تحت الاحتلال حتى اليوم.
ترى هل يضع أي مسؤول إسرائيل في حسابه وهو يتصرف؟!
وإذا ما غاب الخطر الاسرائيلي الداهم عن التفكير والقرار، عن الخطة والتنفيذ، عن المسلك ورد الفعل، فماذا يتبقى غير صراعات الديكة التي لم تعد تسلي أحدا، ولم تعد مؤهلة حتى لاستثارة اهتمامات الناس لأن همومهم باتت أثقل من أن تبقي لهم القدرة على ممارسة مثل هذا الترف.
المفترض بالحكومة أن تحكم، وهي الآن تواجه محاكمة شعبية مفتوحة،
والمفترض بالحكم أن يكون مصدر القرار، وهو الآن وفي ظل الاختلاف يتحمل مسؤولية تعطيل القرار،
وليس في هذا الوضع الكاريكاتوري ما يبهج أو يسلي،
ولم تعد النكتة السوداء تكفي للتنفيس عن كربة الناس، فالأمر أخطر من أن يوصف بأنه بعض »الفولكلور اللبناني« ذي الشهرة العالمية.
والقرار، أي قرار، أقل ضررا من استمرار هذا الواقع المهين!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان