أظن أن النادل في “قهوة المالية” لم يبخل بنظرة عدم ارتياح في كل مرة دخلت إلى مقهاه وجلست انتظر زملاء يستقلون معي الأوتوبيس الذي سوف ينقلنا إلى ميدان الفلكي، فمن هناك يقلنا الأوتوبيس (ج) إلى جامعة القاهرة. لم تكن هي النظرة التي يستقبلني بها عندما أدخل إلى المقهى زبونا تابعا، أي في رفقة الوالد أو أستاذي المفضل. لا شك أنه كان في تصوري الساذج أن باستطاعتي أن استخدم المقهى محطة انتظار باعتباري واحدا من قادة شباب الحي أو لزياراتي المتفرقة للمقهى مع أحد الكبار المرموقين كأستاذي مثلا.
تقابلنا عند مدخل الكلية. سألتني زميلتي إلى أين العزم أجبت إلى وسط البلد لأتسكع فاليوم السبت وأنا لا أعمل فيه. قالت أنها كذلك حرة من أي التزامات وتتمنى لو فعلت مثل الصبيان وتسكعت. سألتها كيف تتجرأين وأنت مخطوبة، قالت ليس له عندي أكثر من حقه في أن لا يسمع مني كذبا. توقفت عن السير ثم تقدمت خطوة لتقف أمامي وتنظر في وجهي وتقول “أما وقد تحديت جسارتي فمن حقي أن أبادلك التحدي. هل تتجاسر وتدعوني لتناول مشروب في (قهوة) في حي محافظ من أحياء القاهرة العتيقة”. قبلت التحدي وفي نيتي رفع مستواه سعيا وراء انبهار أعظم.
نزلنا من الترام في محطة باب الشعرية ومشينا في اتجاه شارع أمير الجيوش الجواني، (مرجوش) بلغة أهل الحي. قادتنا أقدامنا إلى حيث الضجة العالية، أصوات دق النحاسين على النحاس ومعادن أخرى حتى وصلنا قلب الجمالية. يمينا ينزل الشارع في اتجاه مسجد الحسين في شارع المعز ويسارا يصعد في اتجاه أسوار القاهرة وبابي الفتوح والنصر. قبلها انعطفنا غربا في أزقة ضيقة نفذنا من واحد منها إلى شارع بين النهدين حيث قامت أهم وكالات بيع السمنة البلدية والزيوت النباتية. وصلنا بعد التسكع إلى مبتغاي، الحي الذي اشتهر سكانه بطباع القاهرة السلطانية. هنا تعيش وتنشط بتركيز عال فئتان، فئة الفتوات وهذه اشتهرت بتفوقها العضلي وفئة الفهلوية وتميزت بتفوقها في الذكاء (البلدي).
اخترت أحد المقاهي ومقعدين بينهما مائدة معدنية غير مستقرة تماما على الأرض المرشوشة دائما بالماء. بعد قليل أطل علينا نادل يرتدي جلبابا مرفوع ذيله كاشفا عن سروال تتدلى من وسطه نهايتا حبل تحررتا من عقدة كانت لاشك تقيد حركتهما. قال بلهجة وسطية، أي بحزم يختلط بميوعة مقلقة، “المعلمة بتقولكم ما تطولوش القعدة علشان المعلمين والأفندية زمانهم جايين ولو شافوا حرمة قاعدة في القهوة يمكن يزعلوا، وزعلهم وحش”. شربنا القرفة بالجنزبيل واستأنفنا المشي في اتجاه العباسية. أذكر أني عدت إلى هذه القهوة بعد خمس عشرة عاما أثناء إعدادي ورقة عن مفهوم القوة في المجتمعات المحلية المصرية. علقت بذهني صورة المعلمة وهي تدير مجتمعا ذكوريا بامتياز. عدت إليها مرارا وتحدثنا طويلا. كانت حالة من حالات استحقت الغوص فيها بعمق واستخلصت منها دروسا قيمة وباقية.
لي في كل مدينة عشت فيها مقهى أعزه. كان لشباب الدبلوماسيين في الهند مقهى باسم جايلورد Gaylord وسط العاصمة نيودلهي نجتمع فيه مساء كل أحد. النهار نقضيه في النادي الرياضي الاجتماعي الذي يحمل في كل جنباته وصالاته وملاعبه سمات نادي الجزيرة في جزيرة الزمالك بالعاصمة المصرية، والمساء نقضيه في مقهى الجايلورد. في النهار مسلطة علينا في النادي نظرات رؤسائنا من سفراء وقناصل وزوجاتهم وبناتهم وفي المساء نتحرر أو نتمرد في مقهانا، مكان لا يدخله من لم يكن شابا في العمر وفي الروح وفي خاصية التمرد.
في روما، كان لنا معشر الشباب مقهى في موقع وسط بين مقري سفارتي مصر، سفارتها لدى الجمهورية الإيطالية وسفارتها لدى دولة الفاتيكان. الأونجاريا Hungaria مقهى يقع على الطريق إلى سانتا لوتشيا Santa Lucia المطعم الذي نادرا ما خلى من واحد من أعضاء السفارتين زبونا على غداء أو عشاء. كنا عندما يفيض الخير في أوائل الشهر ننتقل أيام العطلة إلى شارع فينيتو Via Veneto حيث المقاهي عالمية الشهرة والمكانة والتكلفة أيضا. هناك نقضي الساعات على مقاعد وثيرة في كافيه دو باري De Paris أو في مقهى الدونيه Doney نمارس سلوك السياح الأمريكيين والآتين من شمال أوروبا، نتفرج على المارين أمامنا ويتفرجون علينا.
عشت عمري أحلم بأن أرى في بلدي مقاه بمواصفات أحببتها. مقاهي عشقتها. إن نسيت فلن أنسى مقهى كوين بيس Queen Bess الواقع على شارع سانتا فيه Santa Fe أحد أشهر وأطول شوارع التسوق في الأرجنتين بل وفي العالم في ذلك الوقت. في هذا المقهى، ولم يكن بعيدا عن مقر عملي. أتوجه إليه بعد الظهر لتناول مشروب منعش استعدادا لسهرة حتمية لا بد منها. ففي الشوارع وراء المقهى تعمل حتى الصباح أعظم مسارح العاصمة بيونس أيرس وأقدم المقاهي المسموح فيها بممارسة رقصة التانجو على أنغام يعزفها فنانون محترفون. مقاهى التانجو كانت تبدو لي باردة فأثاثها قديم وكراسيها غير مريحة وأرضيتها رخامية ونوافذها عالية حتى السقف وأبوابها أيضا. ولكنك لن تشعر بالبرد فالتانجو رقصة دافئة وأنغامها حزينة والحب المفقود لغتها. عشت بعد سنوات مثمرة قضيتها متنقلا بين سنتياجو وبيونس أيرس ومونتيفيديو أقول لأصدقائي أن في التانجو لا أحد يمل أو يشرد راقصا كان أم متفرجا أم مستمعا.
مقاهي عديدة لا أنساها. كيف أنسى المقهى فوق الجبل المطل بجليده في فصل الشتاء على مدينة سنتياجو عاصمة تشيلي. كيف أنساه وقد تعلمت في إحدى قاعاته وبعض حدائقه وعلى مقاعده الحجرية النطق بالإسبانية إحدى أحلى اللغات نطقا وسمعا وكتابة. لولا هذا المقهى ما أحببت أمريكا اللاتينية أو استمتعت بعد مرور عقدين بغناء وصوت خوليو إيجلسياس. لولاه، وأقصد المقهى فوق الجبل، ما تعلمت أن بين الصداقة والحب شعرة لن تعرف مهما امتد بك العمر متى تختفي ومتى تعود.
لن أنسى المقهى فوق الجبل، ولكني لن أنسى أيضا مقهى بسيط المظهر في فيينا مدينة المقاهي الراقية. أذكر دائما وأنا اقرأ عن تاريخ قيام وسقوط الإمبراطوريات قصة ظهور المقاهي في العاصمة النمساوية. قيل أن الجنود العثمانيين خلفوا وراءهم عند التلال المحيطة بالعاصمة آلاف الزكائب المحشوة بالبن ليستولي عليها جنود التحالف العسكري الذي أجبر العثمانيين على الانسحاب فتغير بانسحابهم وجه أوروبا ومزاج شعب النمسا. أذكر لقاء ثنائيا في مقهى بسيط بالعاصمة النمساوية جمعني بمحمد البرادعي استعدادا لتسجيل مقابلة صحفية ساهمت عندما نشرت في رسم قسمات أيام في مرحلة هامة من مراحل تطور الأمة المصرية. كانت ليلة باردة والشوارع مغطاة بالثلج وكل همي تلك الليلة الترتيب مع الدكتور البرادعي لمقابلة لا تخضع لاعتبارات مصالح أضيق من اعتبار مصلحة الوطن. وبالفعل أجرينا المقابلة في اليوم التالي حسب الموعد المتفق عليه في بيته في حضور وفد من الصحيفة، أجريناها كما أعددنا لها كلانا، البرادعي وأنا، في الليلة الفائتة خلال ساعات من نقاش صريح في مقهى بسيط في مدينة تزخر بعشرات المقاهي التاريخية الرائعة.
كان عزائي أنني قبل سنوات غير قليلة قضيت بعض أجازاتي في هذه المدينة الساحرة أتنقل بين المقاهي أحتسي أجود أنواع القهوة وأتذوق أطيب أنواع الحلوى وانصت إلى أعذب الألحان تصدرها قيثارة تعزف عليها أصابع امرأة في فستان أسود أنيق وشعر أصفر منسدل على كتفيها. لم أبالغ أيامها عندما كنت أدور بعد كل زيارة للنمسا أشرح تقاليد شرب القهوة هناك وأقول للناس “هذه طقوس مارسوها مع شرب القهوة أو أنسوا القهوة من أساسها”.
انتهى الوقت ولم آت على كل حكاياتي مع المقاهي.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق