اجتمع الناس شرقا وغربا على إقناعي ثم إجباري على ممارسة العزل الذاتي اتقاءا لشر فيروس هائج قرر أن يصب هياجه على بشر معظمهم رجال بلغوا الثمانين أو تجازوها. أما لماذا اختار هذا النوع من البشر وهذا العمر فلم أجد إجابة مريحة عند أحد. بماذا نتميز ولا يتميز به إخواننا من البشر حتى صرنا هدفا لفيروس لم يجرب العيش معنا في وئام قبل أن ينزل فتكا بنا؟ رحت أسأل نفسي وكل من دفعه الفضول ولم أحصل على ما يطفئ فضولي. قضيت معظم فترات المرض أو التمارض في كل مراحل عمري أقاوم قواعد وإجراءات عزلي، وقضيت معظم سنوات عمري أتمنى ألا تفلح أيادي الغضب السياسي في عزلي أو إجباري على عزل نفسي. يبدو الآن أن غضب الفيروس أفلح فيما فشل فيه غضب السياسي. ها أنا أجلس في بيتي مستسلما لرغبة عائلية وقد رتبت أموري على حال انعزال قد يستمر لأكثر من أسابيع معدودة. ضغط الفيروس على السياسي فضغط السياسي على بناتي فضغطن بدورهن فاستسلمت.
تجذبني المخاطر وأكره العزل لأنه يبعدني عن مصادر التهلكة.. كنت في العشرينات من عمري عندما تعرضت لآلام شديدة في معدتي. فحصني أحسن الأطباء في روما، حيث كنت أعمل، وأشهر الأطباء في فيينا عاصمة النمسا، حيث كان يقيم أقرب الأنسباء. اتفق الطبيبان، بعد أن حصلا على دعم مطلق من رئيس أطباء الأشعة في جامعة روما، اتفقا على ضرورة إجراء عملية خطيرة جدا بالمعدة. تداول الزملاء في الأمر، ورفعوا قرارهم إلى رئيسنا في العمل. كان رجلا حكيما وعالما وأمينا. تحدث مع زوجتي وأقنعها بضرورة إجراء العملية ووعد بأن يسعى لدى طبيب شهير في لندن ليحجز لنا موعدا، وفي ظنه أنها سترتاح فسمعة الطب الإنجليزي لا تمتد إليها الظنون. ساد التوتر ولم أشعر إلا ببعضه إذ كان قرارهم التهوين أمامي من أمر العملية. لم يمر على خواطرهم احتمال أن يكون الخطر بالنسبة لي مصدر إثارة. جميعهم طلبوا من رئيس العمل أن يوافق على إجراء العملية في روما ليكونوا إلى جانبي وجانب عائلتي الصغيرة.
سئلت فيما بعد من زملائي وزوجتي عن هذا الاستسلام الغريب، وأنا في هذه السن الصغيرة، لقرار على هذا القدر من الخطورة على حياتي، وهي الخطورة التي أعاد التأكيد عليها كل الأطباء الذين فحصوا وناقشوا وقرروا. أحد الأطباء وهو الطبيب الذي نصح بإجراء العملية وطبيب التخدير أسرا لي بعد أسابيع من إجراء العملية أنهما حاولا إثنائي عن موقفي وأنا على أهبة الدخول إلى غرفة العمليات، وإنهما استعانا في تلك اللحظة بالجراح بعد أن انتهى للتو من صلاة أداها أمام تمثال العذراء. انضم إليهما الرجل الكهل مبديا استعداده إصدار تعليمات بتأجيل العملية إن نجحا في إقناع المريض وأعرب لهما بالفعل ولكن بطي الرغبة في الكتمان عن رغبته في التأجيل. جاؤوا بزوجتي وأمها وزملاء في العمل. يقولان إنني رفضت بتصميم مريب.
كتبت في موقع آخر لقطات من هذه الرواية من حياتي، ولم أكتب حتى الآن بقية اللقطات. ولا أظن أنني سوف أكتبها كاملة. أكتب لقطات متفرقة في مناسبات متفرقة كما في مناسبة اليوم. أنا في عزل ذاتي فرضته على نفسي مقتنعا بوجاهته فالخطر الذي يهدد حياتي، خطر قادر على إنهائها، تماما وإن في مناسبة مختلفة، كان الخطر متمثلا في إجراء عملية جراحية جاثما وقادرا على إنهاء حياتي. اختلفت الحالتان في أنه في الحالة الأولي كنت أنا الطرف الذي بيده القرار، أما في الحالة الثانية فالقرار هو في يد فيروس لم أره ولم يأخذ رأيي. في الحالتين كانت النهاية قريبة جدا وكان بيدي أن أساهم في أن أجعلها أقرب. نعم. أعرف أن موعدها الدقيق جدا مقرر سلفا، ولكن الخالق شاء فسمح بمساحة في علاقتنا أشعر فيها أنه يدفعني للمشاركة، ليس في صنع هذا القرار ولكن في إبداء الرأي في بعض مراحل وأشكال التنفيذ. عندي مساحة من الحرية تسمح لي بأن أجعل هذا العمر أطول بغزارة ما حققت فيه من سعادة. هذه المساحة من الحرية هي التي تسمح لي، ولغيري، بأن أجعله عمرا قصيرا إن قررت أن أعيشه تعيسا. القرار قراري.
كتبت عن سنوات ما بعد الثمانين. وصفتها بأحلى أيام العمر. الآن وأنا في العزل الذاتي أفكر أنني كنت على حق. كانت فرصة أعادتني أو أعادت لي تفاصيل الروايات الأحلى عن فصول في حياتي. تأكدت وأنا أشاهد شريطا بعد شريط أن في حياتي سنوات أطول من عمر السنين المتعارف عليه. أشاهد وفي غمرة المشاهدة أسأل هل حقا عشت كل تلك السعادة. اكتشفت أن في حياتي لحظات سعادة عشت كل واحدة منها عمرا أطول من عمر إنسان لم يعش لحظة سعادة واحدة حتى الثمالة.. وأسأل، أين وجدت هذه الساعات والأيام لأضيفها إلى ساعات وأيام العام الذي جرت فيه أحداث هذه الرواية. ثم أسأل نفسي، رفيقتي في العزل الذاتي، كيف استطعنا أنت وأنا أن نجمع كل هذا الحب في قلب واحد، ومن أي ينبوع غرفنا كل هذه السعادة. تعالي، ونحن في هذا العزل الناعم، ندقق في أعماق ذاكرتنا المشتركة لنعرف من أين أخذنا الحكمة التي جعلتنا نقرر أنه لا فرق بين كبير وصغير أو بين غني وفقير إلا فيما خلفه هذا أو ذاك من حب وطمأنينة. علمتنا أن لا شيء يعادل مشاعر الحب، كانت القوة العظمى التي لم تتخل عنا في كل مرة لجأنا إليها لتهدئة غضب أو ترطيب جفاف أو إزاحة خطر.
يرن الهاتف الذكي معلنا وصول رسالة. أبحث عنه بين كراساتي. أما الرسالة فموجزة في كلماتها وغزيرة في معانيها “صباح الخير. نفتقدك في عزلتنا”.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق