في واحدة من ساعات الخطر المصيري، عربيا، وفي لحظة عصيبة محليا حيث تتلهى قمة السلطة بتنازع عبثي على الصلاحيات، بينما المنطقة جميعا مهددة في استقلالها السياسي، بل في وجودها ذاته ككيانات وربما كشعوب ، صدرت عن المجمع البطريركي الماروني دعوة حارة الى التنبه لأهمية الارتباط بالأرض، وقدسية الحفاظ على وحدة المجتمع وهويته الطبيعية.
وإذا كانت المناقشة التفصيلية لما انتهى إليه هذا المجمع الذي استغرق الإعداد له خمس عشرة سنة، والذي عقد في دار سيدة الجبل في فتقا بكسروان، وهو الأول منذ 268 سنة، سوف تتأخر في انتظار »الأعمال الكاملة« والبيان الختامي لهذا »المؤتمر« الموسع الذي ضم مطارنة الكنيسة والآباء العامين ورؤساء الجامعات وعمداء كليات اللاهوت ورؤساء المدارس الإكليريكية المارونية في لبنان وخارجه، مع عدد من الخبراء، فلا بد من التنويه بما تضمنه الإعلان الصادر في ختام الدورة الأولى بوصفه مؤشرا على التوجهات العامة لهذه المؤسسة المؤثرة في الحياة العامة للبنان وجواره العربي بدءا بسوريا مرورا بالأردن والأراضي المقدسة (فلسطين) وقبرص وانتهاء بمصر، فضلا عن »ديار الانتشار الماروني«.
وبين النقاط التي لا بد من التنويه بها جملة من التوجهات التي حكمت أعمال المجمع والتي ستتبلور في مقرراته الشاملة التي تناولت أحوال المجتمع سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وبينها على سبيل المثال لا الحصر:
1 نبذ العنصرية والدعوات التقسيمية عبر الإعلان عن »ان الكنيسة المارونية لم ترد يوما، في المجال السياسي، أن تكون كنيسة قومية«… وأن »دعوتها لم تقم على اقتطاع أرض لها دون سواها، بل إن الله ألهم أبناءها على الدوام رسالة المشاركة في المصير مع آخرين في كيان سياسي واحد«.
2 إن خيار الموارنة هو خيار العيش المشترك، وإن لبنان لا قيمة له ولا وجود من دون الحرية… وعلى هذا فالعيش المشترك والحرية شرطان ملازمان لبقاء هذا الوطن..
3 التوكيد على هوية الموارنة خصوصا ومسيحيي هذه الأرض، فالكنيسة مشرقية إنطاكية الجذور والانتماء.. والترابط بديهي بين المؤمنين وأرضهم. فالدين ليس هوية وإنما هو فعل إيمان ولكن الأرض تعطي الهوية. والموارنة بعض أهل دنيا العرب حيث انتشارهم قديم، وأصيل.
4 التوكيد على ضرورة توفير العدالة الاجتماعية والاهتمام بالشباب الذين يحيون قلقا مضنيا على الغد..
5 وبالتأكيد فإن التجربة المرة التي عاشها اللبنانيون جميعا، والموارنة بينهم، كانت في وعي هؤلاء الذين احتشدوا في المجمع الذي فتح أبوابه للحوار مع الآخرين والذي كان فرصة لإعادة تقييم دور »الطائفة« في »النظام القديم« ثم خلال فترة الحرب الأهلية.
والمهم أن المحتشدين في هذا المجمع قد أتموا المراجعة، عبر نوع من النقد الذاتي لتجربتهم مع النظام السياسي وأنهم انتهوا الى خلاصات تصلح لان تعتمد من الآخرين، تمهيداً لحوار شامل يمكّن للوحدة الوطنية، ويساعد على اصلاح شامل للنظام، على قاعدة وطنية صلبة.
في هذا الوقت بالذات وعلى عمق اربعمئة متر تحت سطح البحر، وفي منتجع الشونة الذي يرقد تحت سطح الذاكرة العربية بوقائع غير مفرحة، تلاقى المشاركون في »المنتدى الاقتصادي العالمي الاستثنائي الاول«، المتفرع من منتدى دافوس من اجل »رؤية افضل لمستقبل مشترك على قاعدة المصالحة العالمية«.
الاختيار نموذجي في مكانه وزمانه وموضوعاته والمشاركين فيه: فعلى ارض عربية، وبضيافة الملك الاردني عبد الله الثاني، يتلاقى حشد من الساسة ورجال المخابرات ورجال الاعمال والشركات متعددة الجنسية والسماسرة، ودائماً تحت المظلة الاميركية، لمناقشة بعض التفاصيل الخاصة بمستقبل هذه المنطقة من العالم، في غياب اهلها، اقله كطرف مقرر!
الذاكرة مصدر وجع احياناً، لكن لهذا المنتجع الذي كان مجرد قرية منسية على الشاطئ (الاردني) للبحر الميت، ذكراً محدداً في التاريخ: ففي الشونة تحديداً جرت سلسلة من اللقاءات السرية بين الامير الهاشمي عبد الله بن الحسين، الذي كان الاحتلال البريطاني قد اقتطع له قسماً من ارض بلاد الشام، ونصّبه حاكماً عليها، وبين مسؤولين كبار في مشروع الكيان الذي اقتطعت ارضه من فلسطين لتقام عليها »دولة اسرائيل«.
ففي 30/31 آذار 1948 التقى الأمير عبد الله، موشى دايان وإلياهو ساسون.
وفي ليلة 10/11 أيار 1948، التقى الامير عبد الله غولدا مائير، التي ستغدو في مستقبل الأيام رئيساً لحكومة اسرائيل، وفي هذا اللقاء جرى الاتفاق على خط الهدنة الذي وقع في ما بعد، او بالاحرى جرى الاتفاق على حصة »الامير« من ارض فلسطين بعد اعلان قيام دولة اسرائيل، وهي الحصة التي ستحوله الى »ملك«، وستضم الضفة الغربية ومن ضمنها القدس الشرقية الى تلك البادية فتصيّرها مملكة هاشمية.
ثم في الشونة نفسها تم لقاء ثالث بين الملك عبد الله وكل من يغئيل يادين وموشى دايان ويهوشافاط مركابي، ورفائيل إيتان، جرى فيه الاتفاق على التخلي عن »المثلث« لمصلحة اسرائيل!
ذلك في التاريخ، اما في الحاضر فيكفي ان نتعرف الى من جاء لتمثيل العراق في هذا المنتدى، وهو »الحاكم الاميركي بول بريمر« لنتأكد من جدية الشعار »رؤية افضل لمستقبل مشترك على قاعدة المصالحة العالمية«.
إن شعبين عربيين يقفان عند باب المؤتمر بظلامتهما:
فأما الفلسطينيون فيطلب منهم التنازل عن الأرض، أو معظم ما تبقى في حوزتهم منها فلم تلتهمها المستوطنات »القانونية« أو العشوائية، والطرق الالتفافية، وكذلك التنازل عن كونهم شعباً بهوية محددة يحملها كل من ولد من أبوين فلسطينيين، ينتميان إلى أرض فلسطين وتنتمي إليهم، مقابل خريطة طريق تمثل »الوعد« بدولة شعبها بمعظم أبنائه خارجها، لا سيادة لها ولا جيش (فجيش الدفاع الإسرائيلي يكفي وزيادة..)، ولا هوية لها ولا حدود مشتركة مع أي بلد عربي، بما في ذلك أردن الشونة نفسه..
وأما العراقيون الذين أسقط الاحتلال الأميركي البريطاني دولتهم بذريعة تأديب نظام الطغيان الذي كان قائماً فيها، فلا يعرفون شيئاً عن احوالهم في أرضهم، وليس لهم حق الرأي ولو كرعايا في محمية في أي شأن من شؤونهم، بدءاً بالهوية الجامعة لشتاتهم، والكيان السياسي (جمهورية، ملكية، امارة الخ)، وصولاً إلى الخدمات العامة (الكهرباء، المياه، الإدارة، الأمن، ولو بالشرطة) والذين لا يجدون لهم من »مراجع«، ان وجدت، الا شيوخ القبائل أو رجال الدين أو جنود الاحتلال الذين جاؤوا ليعلموهم اصول الديموقراطية…
.. وها هو المنتدى الاقتصادي العالمي الاستثنائي يناقش في غيابهم المسائل الخاصة بإعادة إعمار بلادهم، وهذا تعبير مهذب للنهب المنظم لموارد بلادهم، والذي ستوزعه الإدارة الأميركية كمكافآت على الذين شرعوا احتلالها للعراق، ولو من موقع شاهد الزور.
طبعاً ستوزع ما يفيض عن حاجة شركاتها ومصانعها واحتياجاتها إلى موارد الطاقة وإلى ما يغطي نفقات الاجتياح العسكري وإدامة الاحتلال.
***
من أجل »رؤية أفضل لمستقبل مشترك على قاعدة المصالحة العالمية«.
يمكن للشونة ان تضيف إلى تاريخها وإلى ملكها الذي يحمل اسم جده المؤسس، عبد الله، الكثير بعد هذا المؤتمر، فهي قد شهدت »المصالحة« العملية بين »قيصر الكون« وبين الذين حاولوا مناقشته في قراره، ها هو الآن يعفو عنهم ويتيح لهم ان يحظوا ببعض الاسلاب وغنائم الحرب.. من العراق!
ثم انها، الشونة، وفرت لحظة قدرية لولي عهد البحرين، الذي ترأس بلاده القمة العربية، لأن »يصالح« إسرائيل، ممثلة بوزير خارجيتها، في »لقاء مصادفة« استمر لأكثر من ثلث ساعة!
كذلك فقد وفرت لإسرائيل »شرعية« التعامل مع »العراق تحت الاحتلال«، فطالما ان الحاكم الأميركي هو صاحب القرار في كل ما يتصل بشؤون العراق والعراقيين، فماذا يمنع الإسرائيليين (وليس اليهود فحسب) من »المشاركة« في إعادة بناء العراق بما يناسب »المصالحة العالمية« العتيدة؟!
لقد بات العراق شأنا داخليا أميركيا، تقرر فيه إدارة جورج بوش ممثلة بالحاكم المقيم في بغداد بول بريمر…
أما فلسطين فهي منذ أمد بعيد شأن إسرائيلي داخلي، تقرر فيه حكومة أرييل شارون ما تراه ضروريا لأمن الإسرائيليين ورفاههم ومكانة دولتهم كقوة عالمية، وبين ما تقرره أعداد الفلسطينيين ومساحة الأرض التي يمكنها أن تستغني لهم عنها لتحاصرهم بالقتل فيها.
وببساطة يمكن القول، بغير خوف من مجافاة الحقيقة، إن »العرب« الذين حضروا هذا المنتدى كانوا أقرب الى شهود الزور، وأما المنتدى نفسه فكان شهادة ناطقة على غياب العرب بمعظمهم عن القرار المتصل بحاضرهم وبمستقبلهم.
لكأنهم شُطبوا عن الخريطة الدولية، وضاعوا عن الطريق الى إثبات حقهم في الوجود وفي تقرير مصيرهم، أو حتى المشاركة في تقرير هذا المصير، وإن ظل لهم، كما دلت المؤتمرات الثلاثة التي عقدت مؤخرا في »أرضهم« شرف المضيف للآتين كي يقرروا لهم مساحة الأرض التي تلزمهم ليعيشوا ثم يموتوا فوقها، وكمية الهواء التي يحتاجونها للتنفس!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان