ها هو التاريخ يعيد نفسه، متخطياً الجغرافيا بين دول الامة الواحدة:
فقبل ثماني سنوات وأربعة أشهر، وجد الرئيس المصري، آنذاك، حسني مبارك، نفسه مضطراً للخضوع لإرادة الشعب الذي ظل محتشداً في ميدان التحرير، وسط القاهرة، لأيام طويلة هاتفاً بسقوط الطغيان، مطالبا بالتغيير واستعادة القرار في شؤون البلاد والعباد، بعد ثلاثين سنة من حكم الرجل الواحد… وهكذا اوفد كبير المستشارين ليقرأ على شاشات التلفزيون بيان استقالته، مع اعتذار من الشعب الذين تحمله لثلاثة عقود.
وها هو الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة يجد نفسه محاصراً بالرفض الشعبي العارم لاستمراره، رئيساً لولاية خامسة، فيسلم اخيرا، وبعد ايام طويلة من التظاهرات المليونية التي خرجت في مختلف انحاء الجزائر تطالبه بالخروج من القصر الرئاسي واعادة الامانة إلى صاحبها، الشعب، الذي عبر عن ارادته بوضوح قاطع بأن لا بد من التغيير.
انه انتصار تاريخي ثانٍ لإرادة الشعب: في مصر، اولاً، وفي الجزائر، ثانياً.
ومع التمني بالا تنتهي الانتفاضة الشعبية المجيدة في الجزائر بالخيبة والانكسار، و”التساهل” مع وصول الاخوان المسلمين إلى سدة السلطة في مصر، قبل أن يستعيدها الجيش بالحيلة ومخادعة الشعب بأنه انما يفعل ذلك باسمه ومن اجله.
تكفي الشعب العربي خيبات الامل التي مُنِيَ بها من قبل، فتم تزوير ارادته، علناً وبوقاحة، من اجل استمرار الطاغية في موقعه الممتاز ومن حوله حاشية السوء، تبرر له اخطاءه والخطايا، وتنافقه مخادعة بالقول إن الشعب لا يريد غيره، ويطلب بل يطالب بل يتمنى أن يبقى إلى الابد.
إن الجزائر، كما مصر، تستحق أن يجني شعبها ثمار تضحياته التي لا اعز ولا اغلى، فيكون من حقه البديهي أن يعيش حياته في ظل مناخ ديمقراطي، كلمته هي الأولى والاخيرة، أي الحاسمة، في نظام الحكم، وفي الرؤساء والحكومات والنواب جميعا.. لا يزورها دكتاتور، ولا تشوهها انتخابات مزورة ولا تتحكم بنتائجها الطائفية او المذهبية او الجهوية، او ـ على وجه الخصوص ـ الاجنبي او الأغنى او الاعظم قدرة على التزوير.
إن الامة العربية جميعاً تعيش واحداً من أيام انتصاراتها المجيدة: لقد حسمت الارادة الشعبية الامر في الجزائر، فأخرجت الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من القصر مرغماً، بعد مماطلة مكلفة ابقت الملايين في شوارع العاصمة والمدن الأخرى والقصبات، شمالاً وشرقاً وجنوباً، موحدة بين “العرب” و”البربر”، رافضة أي تدخل خارجي، حتى كان ما لا بد أن يكون..
ولقد كانت مشاركة الجاليات الجزائرية عظيمة الأعداد والمنتشرة في مختلف انحاء اوروبا بعنوان فرنسا، مؤثرة، فأضافت إلى رصيد الحراك الشعبي في الداخل، بما جعل الاجماع قاطع الوضوح في رفض الدكتاتورية، سواء أمثلها الرئيس ـ الفرد او التنظيم التاريخي، جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي شاخت وتفككت وان بقيت لها قيمة رمزية يحرص عليها الجميع.
حمى الله الجزائر، ونصر ثورة شعبها المباركة والتي يعقد العرب الآمال العراض عليها لأنها تسكن وجدانهم منذ ايام ثورة التحرير، ثورة المليون شهيد التي كانت بداية جديدة للتاريخ العربي الحديث لولا أن صادرتها دكتاتورية العسكر، ممثلة بهواري بومدين ثم من خلفه من الجنرالات، بينما الرئيس الاول، احمد بن بله المنتخب ديمقراطيا بوصفه بطلا من ابطال ثورة التحرير التي أسقطت الفرنسة وأعادت إلى الجزائر هويتها الوطنية ـ العربية الاصيلة، يقبع في السجن ظلما وعدوانا وبلا محاكمة وقبل أن يُنهي المدة القانونية لولايته كأول رئيس لجمهورية الجزائر الشعبية والديمقراطية، والذي انتخب بإجماع النواب في البرلمان الاول والذين كان مشهدهم وهم يدخلون إلى المجلس النيابي فريدا من نوعه في تاريخ البرلمانات: بعضهم بلا يد او يدين، وبعضهم بلا قدمين، وبعض ثالث بلا عين او عينين..
حمى الله الجزائر، ومكن شعبها العظيم الذي استعاد هويته العربية من أن يمسك بقراره الوطني بيديه.. ولتكن الثورة الجديدة بشرى خير للأمة العربية، وحقها في مستقبل أفضل تستحقه بنضالها المتصل من اجل الحرية بالاستقلال والوحدة مع الكرامة.
والاهم والأخطر الا تتكرر التجربة الموجعة التي شهدتها قاهرة جمال عبد الناصر في جزائر المليون شهيد، فيعود الجيش إلى السلطة من الباب الخلفي للثورة التي لا مثيل لها ولا شبيه.