نظام يسرق أبناءه داخل البلد ويدافع في الوقت عينه عن حقوق البلد تجاه العدو الإسرائيلي والوسيط الأميركي الصهيوني. لا يدري المرء أيهما المأساة وأيهما الملهاة، أم أنهما شيء واحد في التشابه لدى نظام يريد المزيد من الموارد عبر الصراع مع الخارج، كي تصير الموارد داخلية، ليسرقها مرة أخرى.
قبل المضي في التحليل، يذكرالزمخشري ( المتوفي عام 528 هـ( في كتابه “الكشاف: عن حقائق وغوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل” التفضيل بين الأنبياء، وهو يعتبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم. في معرض الحديث يريد تأكيد تواضع النبي والمسلمين بالاستشهاد بالحطيئة الشاعر. وقد كان من عادة المفسرين جميعاً الاستشهاد بالشعر الجاهلي والمخضرم. والحطيئة واحد منهم، ومن أكثرهم إقذاعاً في الهجاء، والذي فضّل زهير والنابغة على شعراء الجاهلية. وزاد “لو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه”. تواضع لا نشهد مثله عند الطبقة السياسية في لبنان، وأتباعها من أصحاب المصارف، حين تبلغ المأساة حدها الأقصى، فتتحوّل الى ملهاة، لا شيء فيها يبعث على الضحك أو السرور.
عندما صرخ ثوار 17 تشرين “كلن يعني كلن”، استحقوا أن يدفنوا، فإذا بالقرّاء (قديماً أطلق اسم القرّاء على الزاهدين الثائرين في وجه الحجاج بن يوسف) يتلون الفاتحة على قبورهم بصيغة “شيعة شيعة”. لم يدرك القرّاء يومها أنهم أيضاً من يُسرقون ومن يُنهبون؛ هم أيضاً بعض الضحايا. هم بعض شعب ذهب كله ضحية للنظام الذي ما زال لا يتواضع، ماضياً في ملهاته المأساة ، ومنتجاً أزمات وكوارث، من أزمات الرغيف، والوقود، والدواء، وتدمير المرفأ وبيروت، وإنتاج العتمة والعطش، وتحويل الدولة الى حكم المافيات، بما فيها مافيا المولدات وصهاريج الماء والصرافين، والسلسلة تطول…
النظام الرأسمالي ذو الحداثة يستخدم العقد لاستخدام البروليتاريا، وتشليحهم فائض القيمة. النظام الطائفي يستخدم بالإضافة الى ذلك، تجميع الناس في قطعان وسلخ جلودهم، لتتويج الأكباش ملوكاً على الطوائف. طبقة سياسية من آكلي لحوم البشر والإفقار وسيلتها. مافيات تشليح والمصارف وسيلتها. مصاصو دماء وأزمات الرغيف وسيلتها. يفضلون العتم فيدمرون الكهرباء. استحضروا جهنم على الأرض، وقد بشروا بذلك. منعوا الماء لإنتاج العطش وحرائق الأحراج. لديهم شعور متناقض حيال أتباعهم. يريدون أن يوجدوا ليكونوا جمهوراً، ويريدون لهم الفناء كي لا يحتجوا. على كل حال، هم مفعمون بالاحتقار لمجتمعهم، إذ ما يفرضونه عليه من تزمت في وجهه أو تفلت من جهة أخرى، لا يطبقونه على أنفسهم. هم أصحاب الدم الأزرق؛ نبلاء نظام إقطاعي. يتوارث أولادهم مقاعدهم في المجلس النيابي ومجالس إدارة الشركات التي تغذيهم بالوسائل التي تتيح لهم اقتراف الموبقات. لديهم احتقار تام لجمهورهم. فلتُسْلب مدخراته. وليغرقوا في برازهم. وليعطشوا. وليكن إذلالهم في طوابير الذل.
النظام اللبناني آلة للنهب المنظّم. لا فرق إذا كان يحصل بطريقة قانونية ودستورية أو خلاف ذلك. يجتمع برلمانهم ويقر القوانين. وجميعهم أقسموا على الولاء للدستور. لكنهم سرعان ما يخالفون الإثنين معاً عند أقرب كوع للتشليح (ومخالفة القانون والدستور). القضاء سلطة مستقلة ما دام يقونن سلوكهم ويحكم لصالحهم. يحاكمون هم القضاء عندما تسوّل له نفسه الخروج من تحت عباءتهم. هم فوق القانون. لديهم حصانة تحميهم عند ارتكابهم جرائم مشهودة كما في مرفأ بيروت. هم الثابتون بالحصانة وبتغيير القاضي. وقد تغيّر أكثر من ثلاث مرات.
هم دائما يخوضون حملة ضد الفساد. لم يحاكم أحد من الفاسدين رغم طغيان وجودهم في النظام اللبناني. أرباب للفساد هم قادة الحرب الدائمة على الفساد، والذي لا يليق بنظرهم إلا بموظفين صغار يخالفون تعليمات السادة لتطبيق القانون، فيضعونهم بالسجن بتهم ملفقة.
هم الملائكة، ولولا الخوف من جرح المشاعر الدينية لرفعوا أنفسهم لمرتبة الأنبياء. سلطة إلهية تخوّل أياً منهم أن يقبع القاضي عندما يغضبه. مافيات تتشكّل قيادتها من آلهة بالتكليف. الدين حاضر لإيلاء المهمة. ليس للقضاء حصانة القانون في وجه السياسيين. الحصانة سلطة أخرى بيد المافيات. قال الشاعر:
قومٌ إذا استنبحَ الأضيافُ كلبهُمُ قالوا لأمّهِمِ: بُولي على النّارِ
كل ذي نزاهة أخلاقية أو سياسية ضيف ثقيل على مخيمهم. عندما شارك الفرسان التغييريون في أول جلسة للقيادة العليا للمافيا، أُطفِئت أنوار الديمقراطية، وحُرِمَ التغييريون من أية عضوية في أية لجة ذات معنى، خاصة نيابة الرئاسة التي سيتضح فيما بعد أن لها دورا أساسياً في مفاوضات الترسيم البحري.
هنا نصل الى بيت القصيد. يريدون تحويل لبنان الى مجتمع فاشل بعد تحويله الى دولة فاشلة. السنوات الماضية بعد 2005 معظمها فراغ رئاسي (لانتخاب رئيس جمهورية أو تشكيل حكومة). إضافة الى خلخلة انتظام الدولة، بما في ذلك القضاء، وتعميم الفساد، وإحداث فتن مفتعلة من بينها ما يتوّج باسم “داعش” وأخواتها، وافتعال العجز عن اتخاذ أي قرار بما يشمل كل البنى التحتية، سواء الصيانة أو بناء مشاريع جديدة أو بناء مشاريع فاشلة (مثل السدود التي لا تتحمّل احتواء الماء وتنضب في فصل الحاجة الى الماء، وتدمير مشاريع كانت قائمة، وعدم تشغيل الصالح منها،…). حتى أوراق الدولة من أجل الوثائق الثبوتية صارت غير متاحة. فوضى عامة في أسعار العملات المتعددة الأسعار. وتعتيم كامل هو هدف كل نقاش عام أو تلاسن بين أولي الأمر، بحيث لا يفهم الناس موضوع النقاش ولا آراء من يدلي بآرائه، ولا مواقف من يجرؤ على اتخاذ موقف. إضافة الى الاغتيالات حين تدعو الحاجة.
يُراد لنا الصيرورة الى مجتمع فاشل. حوادث العنف والتسليح تتكرّر. والمبالغات عنها في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تزداد، بحيث إذا تجوّل المرء في الشارع يحسب دائماً أن هناك من يتبعه لإيذائه وتشليحه وربما الدخول الى بيته. والمجتمع الفاشل نتيجة طبيعية، وربما حتمية، للدولة الفاشلة. تعطيل الدولة كان مفتعلاً لإنتاج مجتمع فاشل تعمه الفوضى. ويطرح البعض التقسيم الى منطقة ذات استقرار وأخرى فاقدته.
التقسيم حاصل، وهي بين ثقافتين، إحداهما لتعنت الديني السني والشيعي (صيدا تُمنع فيها الحفلات)، وأخرى للهو الذي يعتبره البعض تفلتا أخلاقيا. فكأن هذه الأخيرة تريد الثأر من الأولى، والانتفاض على التقوقع، حتى بلغ الأمر بالبعض الى تسمية واحدة منها ثقافة الموت، والأخرى ثقافة الحياة. فكأن الموت ينتج عنه ثقافة. هي ثقافة الاستبداد، تواجهها ثقافة أخرى لا يعرف أصحابها معنى الحرية. كيف يدعي الحياة من تعشعش في حنايا دماغه خلال الطائفية؟ لكن التقسيم حاصل وعلى الدارسين اكتشاف معالمه. هو انقسام الى أكثر من ثقافتين، بل أشلاء لمجتمع يكاد يتلاشى تماسكه. كل منزل صار أشبه بجمهورية منفصلة منعزلة بما يجهز نفسه من أدوات لم تكن ضرورية، خاصة على صعيد الكهرباء التي لا يفهم أحد لماذا هي منقطعة، رغم أن معامل الإنتاج قائمة وقابلة للتشغيل، علماً بأن مضاعفة انتاجها أمر ممكن بتركيب معملين، بعد تصميم معملي الزهراني والبداوي من أجل ذلك.
تدمير الدولة عمل ممنهج والنتيجة هي تحويل البلد الى مجتمع فاشل.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق