في هذا الطقس الحارّ والرطب، مناخياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، يفارقنا “نسمة” الذي لم نعرف له مهنةً سوى الحبّ.
أقول يفارقنا ولا أقول يموت. أمثال طلال سلمان لا يموتون، نضالاً وقلماً وجريدةً. هو نصف الوطن، والأوطان لا تموت. لبنان وطن بجناحين، مسيحي ومسلم، وبجريدتين أيضاً هما “النهار” و”السفير”، مع الاحترام والتقدير للصحف والمجلّات والجهود كافّة.
لكن هكذا كان الواقع أو الحال. كانت “السفير” نصف الوطن اليساري والقومي والعروبي قبل أن تعود إلى لبنانية صافية بعد الحرب. كانت المهمّشين والمحرومين في أرضهم زمن الاحتلال. وكانت للمحرومين والفقراء في أرضهم على الدوام.
وُلدت من رحم معاناة هؤلاء. صدّحت بأصواتهم. كانت “صوت الذين لا صوت لهم”، وستبقى صوت الذين لم يكن لهم صوت، على الرغم من احتجابها. في المقابل، شكّلت “النهار” نوعاً من نقيض. هذا النقيض ولّد حياة صحافية صاخبة وجميلة.
يفارقنا طلال سلمان، كما يفعل كبار الصحافيين عادةً. موتهم يكون خبراً هو رأس الأخبار كلّها. وموتهم أيضاً يكون خبراً بأخبار كثيرة.
آخر الأخبار الاحتجاب
قبل رحيله بكثير، رحل طلال سلمان. رحل بملء إرادته. حدّد الموعد وحرّر الخبر ومضى. حدث هذا قبل أحداث كثيرة، تضمّنها الخبر، خبره. حدث مع انتهاء عام 2016. استقبلنا العام الجديد 2017، بلا سفير.
أصاب “السفير” ما أصاب الوطن بعد عامين. استشرفت “السفير” باحتجابها، ما سيحدث لاحقاً من انهيار على المستويات كافّة. أبعد من ذلك، انهارت “السفير”، كما لبنان بعدها، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً ووو… وبشيء من القسوة. لولا ما شكّلته “السفير” وما شكّلها، وهو عصيّ على التبخّر، لأمكن القول: حدث فيها ما يُشبه حكاية المودعين والمصارف.
يقترن الصحافي بالخبر، اقتراناً لا افتكاك منه. زواج ماروني. الارتباط يكاد يكون سرّاً من الأسرار المُقدّسة. لا طلاق ولا فراق. اقتران حتى الموت. حتى الخبر الأخير: أو خبر الأخبار.
غياب لصيغة من صيَغ لبنان
غاب طلال سلمان وغاب لبنان بصيغتَيه. بل بصيَغه التي عرفناها كلّها. وغابت أيضاً الصحافة الورقية، واليسار والحركة الوطنية والقضية الفلسطينية.. والعالم العربي في لبنان. قرأ طلال سلمان المكتوب من عنوانه، لكنّه لم يقوَ على كتابة الخبر كما فعل طويلاً، لذا قرّر أن يكتبه بطريقة مختلفة، فلطالما كانت “السفير” مجدّدةً في عالم الخبر والصحافة. في آخر كتاباته كتبه باحتجابها.
حدث هذا على الرغم من أنّ “السفير” لم تحتجب يوماً، وفي مراحل أشدّ وأقسى. لم تحتجب طوال الحرب الأهلية، وفي عزّ الاحتلال الإسرائيلي كانت تصدر، على شكل رصاصات. وفي عزّ الوجود السوري في لبنان، بقيت تصدر وتقول، ودفعت الثمن مطابع واستدعاءات وووو…
في عزّ الموت، الموت السياسي والثقافي، كانت تصدر أيضاً مذكّرةً بالحياة وأيام النضال والأمل، والزمن الجميل.
كان صعباً عليّ أن أمضي بلا “السفير”. أكلت الجريدة الكثير من عمري ووقتي وأفكاري وهواجسي. أكلت من صوتي، وأنا على الطريق. بعدها صرت على الطريق وحيداً أعزل بلا سفير، بلا نصفي، كما الوطن تماماً.
على الطريق…على خبر
لطالما جذب اللبنانيين عنوانُ زاويته الثابتة. “الترويسة” كما يقول الصحافيون أهل الخبر. الترويسة هي: “على الطريق”. كان عنوانها قريباً إلى حدّ ما من عنوان الراحل كامل مروّة: “قُل كلمتكَ وامشِ”. ربّما هو قدر الصحافيين الكبار، أن يظلّوا على الطريق… حتى الخبر الأخير. الأكيد أنّه كان لكامل مروّة طريق غير تلك التي سلكها طلال سلمان. هذا يفيض صحّة عن أنّ أصحاب الأقلام الكبار يُمضون أعمارهم على طرقات الوطن والإقليم والدول.
بدأ طلال سلمان على الطريق. وعليه أمضى عمره. ومنه انطلق إلى رحلته الأخيرة. بدأ على الطريق من ليبيا إلى “الصيّاد”. رحل الصحافي القدير سعيد فريحة، وهو يقول: ما زلت أنتظر طلال سلمان حتى يعود من ليبيا ومعه نصّ المقابلة مع العقيد الراحل معمّر القذافي. كان يومها على الطريق إلى “السفير”.
في “السفير”، بعد ذلك، كان على الطريق إلى الوطن وفلسطين والعدالة الاجتماعية والتحرّر… إلخ. بعد “السفير” كان على الطريق منها… إلى ما وصلنا إليه.
هكذا يعيش الصحافيون دائماً: على خبرٍ… “كأنّ الريح تحتهم”، على ما يقول الرائع المتنبّي.
المصائر المقهورة
لم تحتجب “السفير” عبثاً هكذا. احتجبت يوم آل مصير كلّ ما مثّلت إلى الاحتجاب. احتجبت يوم سقط كلّ ما مثّلت في السياسة والثقافة. احتجبت يوم بلغت التفاهة ذروتها.
هي انطلقت في عزّ اليسار العربي واللبناني. في عزّ الثورة الفلسطينية. في عزّ الحركة الوطنية. كانت “على الطريق” إلى تحرير الجنوب. كانت صوت اليسار قبل أن يختنق الصوت واليسار. وكانت بندقيةً فلسطينيةً قبل أن يمسّها الصدأ وتسقط في الجحيم اللبناني. وكانت من أركان الحركة الوطنية قبل أن تتلاشى وتذوب الأخيرة. وكانت صوت الجنوب في الوطن الصغير. وصوت الوطن الصغير في الوطن الكبير. والعكس صحيح.
احتجبت “السفير” يوم ضمرت قضاياها، قضايانا، وضمر الوطن. تبدّدت الأحلام وتفرّق الحالمون. اصطدموا بالواقع المرّ والعصيّ على التغيير. وفي هذا أيضاً كانت “السفير” صوت قضايانا، صوتنا. احتجبت. اختنق الصوت. قالت كلمتها ومشت.
اسم بأسماء كثيرة
طلال سلمان ليس اسماً لرجل. ولا عنواناً لجريدة. ولا مفصلاً في مرحلة تاريخية شديدة التعقيد. طلال سلمان اسم بأسماء كثيرة: من ناجي العليّ وصولاً إلى جوزف سماحة وجهاد الزين وحازم صاغية ونهاد المشنوق (قبل أن يصبح وزيراً) وحسين أيوب وعبّاس بيضون. ولا بدّ من الاعتذار عن عدم ذكر مئات الأسماء، بل الآلاف من الشعراء والمثقّفين والصحافيين.
في اسم طلال سلمان أوطان كثيرة، من المحيط إلى الخليج. وفي اسمه مهمّشون ومحرومون في مراحلهم كافّة انتهاءً بما انتهوا إليه. في اسمه قضايا كثيرة لا نعرف مصيرها لشدّة تواريها في عصر القضايا التي بلا أسس: بدءاً من قضيّته الشخصية، هو ابن الجرد، ابن الملحقات والدركيّ الذي كان ينقل عائلته معه حيثما انتقل، ابن الطبقة الفقيرة الذي شقّ طريقه إلى الضوء والمال والطبقات الأخرى.
لطلال سلمان… وعليه
لا تختصر مقالةٌ طلال سلمان. في الأصل والأساس لا يمكنها ذلك. الرجل لم تختصر سيرته مليارات الكلمات التي حملتها “السفير” إلى كلّ حدب وصوب. وهي كلمات دفع في أحايين كثيرة ثمنها دماً وكادت إحداها تودي به إلى حيث أودت مثيلاتها بكثرٍ غيره من سليم اللوزي ورياض طه ونسيب المتني وكامل مروّة وغيرهم، وصولاً إلى سمير قصير وليس انتهاءً به. فسلامٌ على لقمان سليم.
كان طلال سلمان ناصريّاً حتى بعد موت جمال عبد الناصر. وكان لبنانياً حتى الانهيار. كان أديباً حتى صار نسمةً ينتظر كثرٌ هبوبها كلّ ملحق. كان نصف وطن، حتى تبخّر النصفان. وكان خبراً حتى احتجبت الجريدة.
في بعض “السفير” كان هناك انحيازٌ لشيء من “التوتاليتارية” ولو عن غير قصد. ساندت كثيراً قضايا محقّة لأنظمة كان شعارها السرمدي “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. من إفراط إنحيازها إلى قضايا الفقراء دعمت أنظمة “يسارية” سوفيتية الشكل والمضمون. وهي أنظمة صادرت أصوات شعوبها حتى ساد فيها صمتٌ كصمت القبور.
وقفت “السفير” مرّات كثيرة إلى جانب قضايا كانت تغلّب البنادق على السياسة. في أحايين كثيرة من كتب فيها كانوا “مناضلين” أكثر منهم كُتّاباً ومثقّفين. المناضلون بارعون في صناعة العداوة. المثقّفون غيرهم: يمتهنون اشتقاق الأفكار. كانت الصحيفة في أحايين أخرى بين حدّي الهزيمة والنصر: الأولى سببية. الثاني إلهي أو مقدّس. كان كلّ هذا مربكاً ومحيّراً. وكان كلّ هذا أيضاً يستدعي تفكيراً أعمق استحال علينا الإيغال فيه تحت ضغط القضايا الحارّة. عدم إعمال الفكر بفعّالية والوقوع في الحيرة والإرباك دفعانا إلى الانحياز لقضايا حتى لو لم تكن لبنانية، وكاتب هذه الأسطر هو أحد هؤلاء.
برحيل طلال سلمان، يطوي لبنان صفحةً ملأها كبار بحبرهم ودمهم، بل ينطوي كتاب كامل كان وسيبقى ألف باء لبنان.
نشرت في موقع اساس ميديا