.. فأما في لبنان فإن »القيادات« و»المرجعيات« و»الزعامات« السياسية والدينية لم تتوقف طويلا أمام وصول أرييل شارون إلى سدة السلطة في إسرائيل،
قال بعضهم رأيا متعجلا وموجزا مفاده ان هذا التطور يؤكد صحة منطلقاته (هو) في الشأن اللبناني وضرورة »تحييده« عما يجري في المنطقة »التي لم تعد تتحمل مغامرات جديدة«.
وقال بعض آخر رأيا مصاغا بدقة بحيث تسمعه دمشق فتحفظ له »التزامه« الى يوم توزيع الجوائز والمكافآت،
وأعاد بعض ثالث التشديد على إرسال الجيش فورا إلى الجنوب ونشره على امتداد الحدود حتى يستحيل على شارون (بوزنه الثقيل) أن يتسلل إلى لبنان براً إضافة الى »تسلله« اليومي بحرا وجوا!
وبالإجمال فإن »المرجعيات« و»القيادات« و»الزعامات« في لبنان قالت كلمتها في شارون ومشت عائدة إلى »معاركها« حول الصلاحيات والعفو الخاص واستعادة الغائب وتفريج الأزمة الاقتصادية وصفقات تلزيم المشروعات الجديدة بالديون الجديدة..
أما »أم المعارك« التي يعد المسرح لها الآن وتحشد لها »القوى« فتحمل عنوانا، قديما ومتكررا هو: صرف الفائض من الموظفين في الإدارات والهيئات والمؤسسات، وأعدادهم تقديرية، ككل ما يتصل بالأرقام في لبنان، ويمكن أن تتبدل ليس وفقا للهوى والغرض فحسب وإنما كذلك بما يدلل أو يفضح »طائفة« المطالب بالصرف كما طائفة المعترض عليه.
ولا بد، قبل الانتقال إلى الجد، من تسجيل بعض المفارقات أو »اللطائف« حول أمر الفائض من الموظفين..
المفارقة الأولى ان فرص العمل تكاد تكون معدومة في ظل الركود الاقتصادي، وزهرة شباب لبنان تزدحم أمام أبواب السفارات طلبا لتأشيرة تحملهم الى أقصى الأرض طلبا للرزق والحد الأدنى من الضمانات لمستقبلهم… وفي الوقت نفسه فإن الموظفين بأجر يدفعه المكلف اللبناني لا يعملون أو يصنفون كبطالة مقنعة.
المفارقة الثانية ان الأكثرية الساحقة الماحقة من الموظفين في لبنان يتوزعون بين »متعامل« و»متعاقد« و»أجير بالفاتورة« و»مياوم«.
أما الموظفون في الكادر فنسبتهم لا تصل إلى عشرة في المائة من مجموع »الأجراء« الذين يتقاضون نهاية كل شهر مرتبات أو مكافآت أو تعويضات من صندوق الخزينة (هذا إذا ما استثنينا الجيش وقوى الأمن).
وفي التقديرات (غير الرسمية) ان مجموع »الموظفين« بأشكالهم كافة تصل إلى حوالي مائتين وعشرة آلاف »أجير« في بلد لا يزيد عدد سكانه عن ثلاثة ملايين ونصف المليون، بما يعني ان كل ثلاثة من المواطنين »يخدمون« موظفا واحدا،
المفارقة الثالثة ان من يصرف من الخدمة، لا سيما من أصحاب المواقع العليا، وسواء أكان عسكريا أم من العاملين في التلفزيون الرسمي، مثلا، يكلف ميزانية أشقائه المواطنين ثروة تكفي لتشغيل إدارة عصرية لمرفق أساسي في البلاد.
المفارقة الرابعة ان التعيين يتم في الغالب الأعم لدواع سياسية تتصل بضرورة تعزيز مواقع »المرجعيات« الطائفية، أما منع الصرف فيتم لأسباب اجتماعية، وهكذا يتم تكريس »المرجعيات الطائفية« مصدرا للرزق والنعمة ويكتسب حقها بالقيادة مشروعية شبه مقدسة لاتصالها بخبز الناس!
ملاحظة من خارج النص: وسط هذا الجو من المحاباة وتشغيل الدولة عند المرجعيات السياسية الطائفية، يتعذر حتى اشعار آخر تدبير وظائف خاصة للمواطنين العائدين من أسر الاحتلال سواء داخل السجون الاسرائيلية أو في معتقل الخيام أو غيره.
***
ما علينا من الهموم والطرائف اللبنانية فهي مسلسل بلا نهاية،
لنعد الى الهموم العربية الثقيلة والخطيرة التي يفترض أن تشكل جدول أعمال القمة العربية (وهي أول قمة عادية منذ 26 سنة، الرباط 1974) المقرر انعقادها في عمان في أواخر شهر آذار المقبل.
إن بيان لجنة المتابعة التي أنهت اجتماعاتها أمس في العاصمة الاردنية لا يوحي بأن الخلافات العربية العربية قد تراجعت أو تم تقليصها بما يكفي للتفرغ لمواجهة التطورات المرتقبة أو المحتملة في المنطقة، والتي ليس أخطرها وصول شارون الى السلطة في اسرائيل، فهذا عامل ثانوي، ولا يمكن فصله عن طبيعة التحولات السياسية في كيان العدو، وعن العجز العربي عن مواجهة التحدي المفتوح والذي رفعت انتفاضة الأقصى سقفه الى ما يتجاوز قدرة قيادات »الداخل« و»الخارج«.
أبرز هذه التطورات ما أعلنته الادارة الاميركية الجديدة من طيها لصفحة »عملية السلام في الشرق الاوسط«، وتجاوز سياقها الذي كان اعتُمد بتنازلات عربية مكلفة . في مؤتمر مدريد، قبل عشر سنوات… ذلك المؤتمر الذي كان بمثابة ترضية قدمها بوش الأب »لحلفائه« العرب الذين ذهبوا معه الى الحرب لإخراج صدام حسين من الكويت بالقوة التي انتهت بخسائر عربية شاملة ومفجعة ولا يمكن تعويضها، تستوي في ذلك أقطار المشرق وأقطار المغرب وبالذات منها أقطار الجزيرة والخليج.
وصحيح أن وزير الخارجية الأميركية الجديد كولن باول قد عاد فاستدرك و»ضم« دمشق الى جولته المقررة في المنطقة أواخر هذا الشهر، واكد أنه سيلتقي الرئيس بشار الأسد الذي »تحتل بلاده موقعا أساسيا ولها دورها الحيوي الذي لا يمكن انكاره«، لكن مقدمات هذه الجولة وهي الأولى لا تحتمل توقع نتائج عملية تعيد اطلاق المسارات التفاوضية المتوقفة، أو وهذا هو الأهم تسهم في تصحيح العلاقات العربية الاميركية بما يجعلها مفيدة للعرب بقدر ما هي مفيدة »لحليفهم« الكبير.. والأرجح أنها ستعيد قسمة العرب بدل أن تقرب بينهم. فحتى شارون، بكل صفاته المستفزة لم يوحد موقفهم في مواجهته.
وستجيء القمة العربية محملة بنتائج هذه الجولة أو بالآمال التي قد يعلقها البعض عليها، والتي ستعطل »القرار« إن كان ثمة قرار بذريعة جاهزة: إعطاء وقت للادارة الجديدة كي تعرف فتقرر… واعطاء فرصة لشارون لعله يغير فيفاجئنا مفاجأة سارة بأن يعيد الينا فلسطين بغير شروط!
ومؤسف أن القمم العربية تبدو معلقة في نتائجها دائما على قرار العدو أو صديق العدو: اسرائيل والولايات المتحدة الاميركية.
ففي أواخر ربيع العام 1996 تنادى العرب الى قمة استثنائية ردا على »الحرب« الاسرائيلية بانتخاب بنيامين نتنياهو، ثم لم يفعلوا شيئا لمواجهته، حتى تكفل به خصومه الاسرائيليون أنفسهم.
وفي خريف العام 2000 هرول حكام العرب الى قمة طارئة تم تقديم موعدها لملاقاة الانتفاضة في منتصف الطريق وقبل أن تفعل في أقطارهم ما كانت جديرة بأن تحدثه من »انتفاضات« ضد أنظمتها لتخاذلها وتسليمها بالقدر الاسرائيلي… لكن القمة لم تفعل غير تزكية باراك فيما هو موغل في قتل فتية الانتفاضة، وها هو يسقط دون أن يكون لتلك القمة أي دور في إسقاطه.
وها هي قمة بوش شارون تقترب والعرب بلا قرار وبلا سياسة متفق عليها ومعتمدة ولو على قاعدة الحد الأدنى..
أما اسرائيل فقد حددت موقفها بوضوح: اعتبار كل ما كانت وصلت اليه حكومة باراك عبر المفاوضات مع الفلسطينيين لاغيا وكأنه لم يكن.
والتحدي أمام القمة العادية جدي وخطير،
فإذا كانت القمم الطارئة والاستثنائية لم تستطع إنجاز ما وعدت به فكيف بالعادية وفي عمان التي ترتج تحت ضغط التهديد الاسرائيلي والشقاق الداخلي الذي يجد الكثير من المشجعين؟
وهذا يعيدنا الى حديث لبنان وهمومه ومرجعياته العظمى التي تعيش من الازمة ولا تحلها!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان