بعد القرار التركي بإرسال قوات إلى ليبيا،
وبعد استنجاد حكومة السراج بخمس دول حددها بالاسم،
وبعد ارتباطات حفتر الأميركية الروسية الإماراتية وما شابه،
بات بإمكان المترحمين على أيام العقيد القذافي التبجح أن صاحب الكتاب الأخضر لم يسلم البلاد لأجنبي قط، وأنه فرض على برلسكوني ايطاليا تقديم الاعتذار لليبيا عن فترة الاحتلال، وأنه نصب خيمته وشرب حليب ناقته في باحة قصر الاليزيه الفرنسي عندما استضافه (قاتله؟) الرئيس ساركوزي، بينما حول من خلَفَه البلاد إلى مضافات للدول والأطماع الخارجية.
ثم يجوز لهم أن يتساءلوا بخبث عن الفرق بين دخول قوات ايرانية وروسية إلى سوريا ودخول قوات تركية إلى قطر أو ليبيا؟ ففي كلا الحالتين استند الداخل إلى شرعية الطالب، فكيف يجوز إذاً استنكار الاحتلال الإيراني هنا والتصفيق للاحتلال التركي هناك؟
لا بأس، ففي نهاية المطاف، ليست الثورات فرضاً على أحد، والإيمان بها هو ضرب من المراهنة على غد بعيد.
والحقيقة أن الواقع العربي يقدم يومياً حججاً وبراهين يثبت تفوق الديكتاتوريات (الإداري) على كل من حل محلها من قوى وشخصيات تبوأت مراكز القرار في بعض العواصم التي شهدت سقوط زعاماتها، وهكذا لم تعد نكتة المفاضلة بين مبارك والسيسي أو بين صدام وخلفائه أو اعتبار أن بقاء بشار أفضل من أي ممن حاولوا الإطاحة به.
وكل هذه المقارنات جائزة خاصة إذا ما عاين المرء حالة التردي وانسداد الأفق في أكثر من بلد.
لكن هذا المنطق تغيب عنه بديهيات جربها التاريخ مرات تلو مرات، فالثورات لا تنبع من العدم ولا من كثرة الترف، وهي إذ تحصل في مكان ما ويسندها قطاع عريض من محيطها تكون قد وصلت إلى مرحلة تسبخس فيه أي ثمن مقابل التغيير.
والثورات ولئن يحصل لها ـ ككل كائن حي ـ أن تفشل أو أن تموت أو أن يستولي عليها طرف هو نقيضها بالتعريف، فإن البلد الذي وقعت به لا يعود أبداً كما كان!
والثورات، ولعل هنا الأهم، تدخل إلى كل الديار سواء إختار صاحب الدار استقبالها أم لا، وهي تغير عميقاً في آلية تفكير كل الناس، وتجبرهم على نفض الغبار وإعادة النظر بكل الموروث القديم جيده وسيئه. وهكذا يغير الناس من مفاهيم وجودهم، وينظرون محيطهم وذواتهم من زوايا أخرى.
والثورات، ولأن وقودها الحماسة وكمية هائلة من التعاطف والمشاعر التي تلتهب مع كل حدث، فإنها ككل عاشق أو عاشقة عرضة أكثر من غيرها لخيبات الأمل والبكاء والحنين.
من ناحيتي، ولأن الخاص يختلط بالعام أكثر فأكثر، فقد غيرني الربيع العربي جداً. بت أبتعد ما أمكن عن التأكيدات والاطمئنان الذي تقدمه بسهولة الألفاظ الرنانة من نوع “حتمية الانتصار” و”الشعب العظيم” و”الوطن الذي يحتاج إلى قرابين!”
أصبحت أترك للشك مكانا أكبر، فالحقيقة أكبر من أن يمتلكها أحد. وحاولت ما استطعت الابتعاد عن لغة الحقد والشتيمة، وبحثت عن الحد الأدنى من القواسم المشتركة التي تجمع بين الأطراف المتضادة. حافظت في علاقاتي ما أمكن على الموالين والثورويين، واعتبرت أن الضمير هو شأن خاص وعلي أن أراقب ضميري لا ضمير الآخرين.
لم يمنع عني هذا تراكم الخيبات ولا تسلل اليأس ولا لحظات الوحدة أو العتمة المطبقة. لكنه لم يمنع لحظات الفرح أيضا، إذ ربما نكون، أهل هذه البلاد، مجبولين، ككل البشر أو أكثر بقليل، من طينة تحمل داخلها كل ما أورثته لنا الحياة في ترحالها التاريخي، تلك التي تقول أنها جميلة رغم كل شيء، وأننا منذ جلجامش أو قبله بزمن، لا نزال نبحث عن نبتة الخلود ثم نبتهج حين لا نجدها، ونقسَّم أننا نراها في عيون أطفالنا، فنراهنُ من جديد على مستقبل غامض تغبش على رؤيته دموع العيون التي ترى عاجزة قوافل النزوح والمتاهات المسدودة ببن قصفٍ وتكالبٍ وحسابات سلاطين. وفجأة يأتينا أبو العلاء من رأس تمثاله الاسباني الذي أصر نحات سوري على نحته، صارخاً: غير مجدٍ في ملتي واعتقادي… فنعانده لنعاند القهر، نغير القافية ونضيف: نوح سراجٍ أو ترنم حفتر!