بات مجلس الأمن الدولي أقرب ما يكون إلى “وزارة المستعمرات” في الأمبراطورية الأميركية الجديدة.
وهو ينظر فقط في المسائل التي تتحرج وزارة الخارجية من تناولها مباشرة، أما لعدم الاختصاص وأما لكون تلك المسائل “دون المستوى”.
من خلال التجربة الحسية خلال الأيام القليلة الماضية فقد أفهمت الولايات المتحدة الأميركية من يريد أن يفهم أن الصراع العربي – الإسرائيلي لم يعد من اختصاص مجلس الأمن، بل هو سيحصر اهتمامه في الحروب الأهلية العربية سواء أكانت داخل قطر واحد أو ممتدة ومتعددة الجبهات في أكثر من قطر.
فلا شأن لمجلس الأمن، مثلاً، بالاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، أرضه وسيادته ومواطنيه… وهو ممنوع من النظر، مجرد النظر فيها، فكيف بإصدار قرارات ملزمة وقاطعة في إدانتها للطرف المعتدي؟!
والمنع يسري على المجلس كمؤسسة وعلى أعضائه الخمسة عشر كما على رئيس دورته كائناً من كان، لا فرق في ذلك بين عربي، وأعجمي،
القرار ممنوع وكذلك البيان الرئاسي،
فالسماء اللبنانية كما المياه والأرض يجب أن تبقى مفتوحة أمام العسكر الإسرائيلي بغير موانع أو قيود،
وكذلك مسرح الشرعية الدولية في نيويورك،
و”المندوب السامي” الأميركي في بيروت حاول أن يشرح الأمر لأولي الأمر فلم يسمعوه، وأصروا على أن يناطحوا الصخرة، ثم أدركوا – بعد فوات الأوان – أن إسرائيل تتمتع بحصانة مطلقة، وإنها فوق العقوبات أو الإدانة أو التنديد.
ثمة طريق واحد للمراجعة: عبر واشنطن، ومع التسليم “بحق” إسرائيل في رفض الشفاعة الأميركية ذاتها إذا ما تعارضت مع “أمنها”.
الدورة محددة إذاً: تضربك إسرائيل فتسعى شاكياً إلى واشنطن، وواشنطن تحيلك – ومن موقع الوسيط النزيه وراعي المفاوضات والشريك الكامل فيها – إلى إسرائيل، فإن أنت وقعت معها الصلح المنفرد سلمت، وإن أنت كابرت فعاندت تكون على نفسها جنت براقش…
أما في موضوع اليمن فكان الشرط الوحيد لكي يقبل النظر في الحرب المفتوحة على اليمنيين هناك هو أن يطمس أي ذكر للوحدة اليمنية.
أي أن مجلس الأمن مفتوح على مصراعيه لشكاوى العرب من العرب، ولو داخل القطر الواحد، ولكن بشرط أن يتركوا عروبتهم عند بابه وأن يتحوّلوا إلى مدع ومدعى عليه، قاتل ومقتول، أو مقتولين، أو قاتلين، وهذا عز الطلب.
محروم العربي من موقع الضحية بالنسبة لإسرائيل التي تحتل أرضه وإرادته، ولكنه موضع ترحيب حار إذا جاء كضحية لشقيقه أو لذاته.
ومن شكا نفسه أو أخاه في نيويورك فتحت له أبواب واشنطن، وحظي بالمساندة والتعاطف من إسرائيل ذاتها،
ومن ذهب يشكو إسرائيل فإنه يتعرّض، بعد الاعتداء العسكري، لمهانة سياسية وهزيمة دبلوماسية.
على أن إسرائيل ترفض واشنطن وسيطاً بينها وبين من تبقى من “أعدائها” العرب… فهي تريدها مجرد جسر وبوابة عبور توصلهم إليها جاهزين للتوقيع.
ورابين هو الذي يحدّد لوارن كريستوفر مواعيد زياراته وجدول مباحثاته في المنطقة، لاسيما متى كانت متصلة بالصراع العربي – الإسرائيلي.
وها هو رئيس حكومة إسرائيل يثبت لواشنطن، وللمرة الثانية خلال أقل من سنة، أنه لا يحتاج إلى جهدها ورعايتها من أجل الحصول على توقيع هذا العربي أو ذاك على صلح منفرد معه وبشروطه.
لقد حصل على توقيع عرفات على اتفاق غزة – أريحا في أوسلو، من دون مشاركة واشنطن بل ومن خلف ظهرها كما تدعي،
وها هو يقطف توقيع المندوب الملكي الأردني في واشنطن ذاتها، ولكن بغير أن تكون “راعية” أو “مدبرة” للموعد الذي توصل إليه باتفاق مباشر مع الملك شخصياً.
لقد انتهت “القضية” التي كان ينتجها الصراع العربي – الإسرائيلي.
وتحوّل الفلسطينيون من أصحاب قضية ذات أبعاد قومية شاملة، وذات تعاطف دولي واسع، إلى مشكلة داخلية إسرائيلية من طبيعة أمنية ولا علاقة لها تقريباً بالسياسة!!
وما تبقى ليس إلا ذيولاً، وأيضاً من طبيعة أمنية أكثر منها سياسية.
ثمة مشكلات ومنازعات حدودية مع سوريا أساساً ولبنان بالاستطراد، وهذه لا تولد صراعاَ واسعاً حتى لو كانت قد نجمت عن صراع تاريخي ودموي في الماضي.
ولأن إسرائيل قوية فهي قادرة على تصفية الذيول الأمنية لتلك المنازعات الحدودية بأساطيلها أو بقوات الكوماندوس.
إذاً فلماذا مجلس الأمن؟
بل لماذا المفاوضات مع من تبقى من العرب، في واشنطن وفي إطار مؤتمر مدريد؟!
ولماذا دور الراعي والشريك الكامل الأميركي؟!
أما في مثل حالة اليمن فلا بد من الشرعية الدولية كمدخل،
وهكذا يصبح مجلس الأمن الدولي باب الدخول الأميركي إلى ما تبقى من مناطق عربية لم تحتلها قوات التحالف الدولي أثر “عاصفة الصحراء” التي أعقبت غزوة صدام الحمقاء في الكويت،
ويصبح مجلس الأمن الدولي باب الخروج الإسرائيلي من الصراع ومن المفاوضات إلى احتلال ما تبقى من الأرض ومن الإرادة العربية وتحت الرعاية الأميركية دائماً المنضبطة مع احتياجات الأمن الإسرائيلي.
وأقطار الوطن العربي الكبير نوعان:
في بعضها مندوب سام أميركي، لأن إسرائيل عاجزة عن الوصول حتى إشعار آخر،
وفي البعض الآخر مندوب سام إسرائيلي يعمل حتى لا تصل واشنطن فتأخذ مكان إسرائيل أو تشاركها،
وأصحاب الحظوة من عرب النفط هو فقط المسموح لهم باختيار مندوبهم السامي.
أما مجلس الأمن فحامل أختام، مجرد حامل أختام، لإضفاء الشرعية على هذا المندوب السامي أو ذاك!
وهو في كل الحالات مجلس أمن إسرائيل الدولي!