ليس من حسن الحظ، دائماً، ان تعرف الشعراء خصوصاً، واهل الفن عموماً، من قرب… ان تنفتح امامك ثنايا الصورة المشرقة، وتهب عليك رياح المزاج ولوثات الشياطين التي تسكنهم فتقرر علاقاتهم بالآخرين، وتتفجر في وجهك »عواطفهم« المكتومة تحت استار المجاملات والحرص على مظهر الكِبر وضرورة تعزيز المكانة… والانتشار.
يفضَّل، في الغالب، ان تحتفظ لنفسك بمسافة عنهم، لتحفظ إعجابك بنتاجهم، او حبك الشخصي لهم… اللهم إلا اذا كنت تحب ان تدرج نفسك في قائمة »الغاوين«… وفي مهنتنا، نحن الصحافيين، تُعتبر »الغواية« بين اسباب النجاح.
محمد علي شمس الدين من الشعراء الذين لم تيسر لي ظروفه وظروفي فرصة لصداقة شخصية حميمة، فاقتصر الامر على إعجابي بشعره الذي لم ينفصل يوماً عن الموقف، وإن كان لم يسقط في هاوية الخطابية والمناسباتية السمحة. ولعلني الآن، وبعد ديوانه الاخير »يحرث في الآبار«، اعرفه اكثر:
»ميم« ينام الآن على شفة الرؤيا،
لا يهبط نحو البئر
ولا يصعد نحو الامطار«
وتساءلت عما يفعله »ميم« اذا استيقظ، فقرأت وحفظت:
»ها أنا وحدي، وامشي،
مثل ذئبين معاً فوق المياه،
رافعاً بالمخلب الازرق ميزان جروحي،
تسقط الانجم كانفجار
في قبضة روحي«…
……..
»أنا المخلوع من زمني وايقاعي
»أنا المنبوذ خلف حدود مملكتي وأتباعي«
……..
»تقدمْ قليلا لكي يبصروك،
تقدم ولو مثل ظلك،
ان هذا البكاء،
حجر في مهب السماء…«
……..
»وارمِ في الوادي عويلك
جاءك الموت/ من الموت/ على الموت/ الى الموت،
تعجل/ قبل ان يمشي على صدرك/ بغل الازمنة…«
»تعذبني ايها الظل/ بيني وبينك خطوي،
يعذبني ان بيني وبيني سواي،
فاهبطي ايتها الشمس فوقي تماما
(اذا شئت)
وانتصفيني،
اريد لتدخل في ظلالي
اريد أرى وحدتي وحدها،
ولكنني مَن أنا…«
لمزيد من المعرفة، قرأت فحفظت:
»في العرض الاول في بغداد،
حيث التاريخ ينام على كتف الجلاد،
كان الناس جياعاً/ ومصابين بأوجاع لا تُحصى نظروا فوق الشاشة ناقتهم/ بيضاء تموج على صحن المرمر
عقروها/ حتى سال على فمهم دمها كالسكر«
ثم ختمت معرفتي المتجددة بصديق قديم مع »مرثية الى البلاد العظيمة«:
انهم من ثمانين عاما/ يجوبون هذي الحقول
ولا من سبيل الى السنبلة…
… تقدم اذن
ايها الجنرال النبيل
وخذ ما تبقى من المهزلة
زرك/ النووي/ الثقيل«.
محمد علي شمس الدين الشاعر النابت من الجرح، بل المولود في قلب الجرح، لا يعول ولا ينوح، ولا يبكي على الاطلال. انه يسحبك من جرحك الى جرحه. لا مسكنات، ليدوي الالم، وليفتح الوجع الطريق الى الغد الذي لعلنا لم نعطه في امسنا ما يجعله كما نشتهي.
من الجنوب الى الجنوب، فكل دنيانا جنوب من اقصى لبنان الى اقصى العراق، ومن اقصى فلسطين الى اقصى »المعسكر الاشتراكي العظيم«. لكن محمد علي شمس الدين يحدي لنا لكي نمرق من الخطابة الى الصمت الذي »يضج به صدر العالم«:
»يأخذ »ميم« الماء بكفيه/ كما يأخذ قمح الموسم
ويحدق فيه/ فيبصر صورته/ تتماوج بين يديه
فيضغط حتى لا تفلت من بين/ اصابعه عيناه…«.
محمد علي شمس الدين: لا تصمت طويلا.
حكاية قطة تضحك ورجل يبكي!
ماءت القطة، فجاءت »الألو« ممطوطة تقطر دعة، فأصلح الرجل ربطة عنقه.
قالت بخليط من اللغات الحية: هل تستطيع ان تجيء اليّ، انني في حاجة إليك.
رقصت اخيلة للافراس البرية في عينيه، قبل ان يرد بصوت هازج وهو يهز رأسه مؤكداً، وكأنه يريها حماسته: طبعا، طبعاً. بعد ساعة سأكون معكِ.
انتبه وهو يضع السماعة الى انه قال لها »سأكون معك«، فهنأ نفسه على ذكائه وسرعة خاطره: لقد سبق الكلام الفعل، ومهد له…
دخل البهو. كان يحاول استعادة ملامحها. منذ دهر لم يرها، وهي بالتأكيد قد تغيرت. للمرأة ألف وجه، آتراه سيعرفها؟! بحث بعينيه، لم يجد »قطة« وحيدة في اي مكان. كانوا »اثنين اثنين«. على طاولة منفردة كانت »قطة« تبكي بينما صاحبها يفحّ غضبه في وجهها ألسنة من النار. ارتبك، بلع ريقه، احس بقطرات عرق تتجمع فوق جبينه، بالتحديد عند زوايا عينيه… وهمّ بالانصراف، فاذا هي تموء في مكان قريب. اندفعت تعانقه وتعرفه برفيق الطاولة، بينما هو يتأمل اناملها الهشة متسائلاً عن مدى صلابة مخالبها المختبئة الآن.
سأل عن سنوات الغياب، وسألتْ، وجاء الصمت مدخلاً الى »الموضوع«.
قالت تفسر: لم يخطر ببالي غيرك لاطلعه على سري، لعلك تساعدني.
امتلأ وجهه بملامح الشهامة، بينما سالت الدموع فوق صفحة وجهها. ناولها من فوق الطاولة منديلاً، ثم آخر، وطلب لها »فنجان قهوة سادة«، كما ارادت، وعب كوب الماء بعدما رفضته. قالت: لن تصدق!
صمت، واحس بعينيه تتسعان فتغطيان الوجه كله بعلامات الاستفهام والدهشة. عادت تقول: لقد رماني وهرب!
اطفأ بعض الدهشة ليتيح للاسئلة، ومعها التحرج من عدم الفهم، ان تقتعد الوجه الكثير التعرجات. سمع همستها الباكية: ايرضيك هذا؟
أينقصه المزيد من النكد والحكايات الملفقة للنساء المهجورات؟! ومَن يهجر مثل هذه »البسبوسة«؟!
روت الحكاية: كيف رفعته من الحضيض، كيف اعطته كل ما تملك، كيف جعلته اسما في الاخبار، ثم كيف اخذ يعذبها ويتقصد اهانتها ويخونها علناً، حتى وصل به الامر الى الهرب مع »خادمة« كانت في منزلهما…
غمغم بما لا يعرف معناه قبل ان يقف مودعاً.
ابتسمت مجدداً فلم ير في فمها »صفي لولو«، بل رأى »انيابا« ناصعة البياض، مسننة، وخطرت بباله صورة صواريخ العرض العسكري لمناسبة الاحتفال بعيد »الثورة الاشتراكية العظمى«. قالت: آسفة ان اكون قد اتعبتك… هل استطيع ان اتصل بك غداً؟!
كاد يقول لها: لا… كاد يعتذر بأي »طارئ«، كاد يختلق »سفرا«، لكنه، وسط دهشته، سمع نفسه يقول لها: طبعاً، طبعاً، في كل وقت.
ماءت القطة شاكرة، وفوجئ بجسده يتقلص وينطوي على ذاته، ورأى نفسه يضع ذيله بين ساقيه ويتسلل بين الطاولات الى حيث الهواء البحري المنعش، وهناك اطلق مواء طويلاً وحادا جدا.
ومن خلف الزجاج لمحها تتابعه ببصرها وابتسامتها تلك التي كلما اشرقت تصاغرت صاحبتها عائدة الى جلد القطة ناعسة العينين!
للحلم سمرتك وسندسية العينين
نبتت في طريق بيتنا النجوم، وتدلى من سقف غرفتي كوكب دري يشع دفئا وحنانا وشغبا، ودار يسقي أصص الاحلام زهرة زهرة حتى امتلأ صدري املاً معطّراً.
ما ابهج ان يجيئك الصبح هاتفا: يا أبتِ!
ما اروع ان يخترق غدك سجف العتمة فيرفعك إليه، ويمد بصيرتك بقوة النفاذ الى قلب السر، ويكشف عن عينيك غمامة اليأس، ويزرع في صدرك ياسمينة وقاموساً؛ اوله »اقرأ« ومنتهاه »والعصر«…
ما اسمى ان يعيد حلمك استيلادك، فاذا أنت الذي تمنيت دائما ان تكون وما قدرت، واذا الفكرة قد مشت امامك على قدمين من الارادة وتحدي الذات لتأخذك الى التمني فتفتحه ويستكين لك وانت اليقين.
تمشين على اهدابنا وانت تتقدمين بنا، واحيانا تسحبيننا لاختراق ذلك الجدار الذي طالما تساقطنا امام صعوبته بوهم انه »المستحيل«، واننا لا نقدر، وان »الآخرين« وحدهم يقدرون.
تتغلغلين في ثنايا الروح فتمسح عنك تعب الغربة ومضض الوحدة في مواجهة الصعب الذي لولا صعوبته لخجلتِ من الاعتراف به.
اكاد اخجل امامك وأنا اعرض عرق الجبين ونحول الساعد الذي عجز عن رفع الصخرة الى القمة التي تبدو الآن سفحاً مزروعاً بالقمح الذي ترتسم على حباته وجوه الاحبة، فيغدو مباركا بوعدنا لهم ان يكونوا دائماً دائماً حتى لا نطالهم إلا بامانينا التي تشبههم.
وصل الينا الحب طوفاناً، في قلبه نار تنزل علينا بردا وسلاما وحلما له سمرتك وسندسية العينين وبهاء القلب الاخضر…
اللهم احمِ فرح ايام الشقاء. اللهم احمِ ورد الاحلام وقد تفتحت أكمامه جميعاً فأدخلتْنا جنة الغد الموعود.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
اجمل القصائد امرأة. اجمل الاغاني امرأة. اجمل الساعات امرأة. واجمل الشعراء مَن غنى امرأة واحدة، وليس كل النساء.
قلت متهيبا: ولكنهم يقولون إن كل النساء امرأة واحدة.
ثار غضب نسمة وهو يرد محنقا: لا تصدق الخائبين. اذا احببت فإن »امرأتك« ستكون كل النساء، لكن اي امرأة اخرى لن تكونها. وامرأتك ستختزل فيك الرجال جميعا، لكن الرجال جميعا سيذوبون امامها فيك… وستولد ابهى القصائد التي يحسب كل شاعر انه قد قالها، ثم يسمع اجمل منها فيعود الى امرأته لتعطيه اجمل الاجمل من أزمنة الشعر!.
آخر الكلام
} كتبت إليه تقول: متى تتعلم القراءة؟! أما زلت تخطئ في تهجئة نواياي؟!
} رن الهاتف الى جانبه فانتعش، وتركه يرن ليستمتع بأن حواسه تعود الى وعيها.
} قالت: تجيئني كلماتك وكأنك تخاطب عبري كل النساء. اشتهيت ان اجد صورتي وحدي في ما تقوله لي. هل تتخذني مكبراً لصوتك؟ متى ترفع صوتك حتى يبلغ حد الهمس؟!
} يتسابق الرجال الى المرأة، فاذا ما اقتربوا منها تباطأ واحدهم منتظراً ان يتساقط المتقدمون فيصل وحده، او تتعثر بهم فتسقط هي عليه. الاجنحة للادعاءات فقط.
} كلما أزهرت شجرتك تناثرت الثمار في الطريق مستبقة الموسم. دائماً يأخذني إليكِ التشوق الى اول ثمرة في الموسم الجديد
* * *
سرى النسغ في الساق، وتساقط مندفعاً الى الجرن.
فاض الجرن. سال النسغ فرطّب زغب الدواخل.
نما الزغب فصار شجراً. تكاثف الشجر والتف مبتدعا غابة كثيفة.
تنفست الغابة غيما. جاء هواء الشمال فتقطّر الغيم مطراً.
طرق المطر باب الارض. لم تفتح الارض بابها. هاجر المطر الى البحر فازهر، اتخذ الزهر شكل السمك. جاء السمك الى الغابة يسأل عن الجرن.
أحنت الازهار رؤوسها وتهامست، ثم انتثرت ملء الغابة لتخفي طوفان النسغ المتدفق الى الجرن الذي فقد الآن قعره.