أشرقت شمس الأحد الواقع فيه العاشر من حزيران 2007 في موعدها كل يوم، وغربت في موعدها تماماً. الطقس جيد لا تعكّره إلا الأخبار المثيرة للحزن عن الخسائر التي يتكبدها الجيش الوطني في مواجهته القاسية، وبإمكاناته المحدودة، للجماعة الإرهابية التي اتخذت من مخيم نهر البارد، بسكانه من اللاجئين الفلسطينيين، رهينة، والتي لم تعد تتحفظ في المجاهرة بتبعيتها لتنظيم القاعدة ، وإن اتخذت من فتح الإسلام اسماً حركياً..
وربما لأن أعداد الشهداء من الجنود والرتباء كانت عالية، فإن تعاظم القلق وسيادة الغموض حول النهاية المحتملة (والمطلوبة) لهذه المواجهة التي فُرضت على الجيش، في ظل وضع من الانقسام السياسي الحاد، وفي ظل صراع دولي إقليمي متفجّر، فإن الأكثرية الساحقة من اللبنانيين لم تنتبه إلى انتهاء المهلة الإنذار بدخول القرار 1757 الصادر عن مجلس الأمن بإقامة المحكمة الدولية حول لبنان، مرحلة التنفيذ، تحت عنوان محاسبة قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري .
كان اللبنانيون جميعاً يعرفون بأمر هذا الموعد.. مع ذلك، وبغض النظر عن اعتراضاتهم السياسية، وهي عديدة، ومعظمها نابع من تقديرهم لرفيق الحريري ودوره المميّز، بل الباهر في حياته، وبعضها الآخر يتصل بحرصهم على كرامة الرئيس الشهيد وكرامة وطنهم بدولتها (التي تكاد تندثر) ومؤسساتها المعطوبة بالخلاف السياسي، فإن الجميع استقبلوا انتهاء المهلة ودخول القرار بإنشاء المحكمة حيز التنفيذ ببساطة وبهدوء شامل… وإن ظلت الحسرة في الصدر حارقة!
لم تخرج التظاهرات مليونية بالاعتراض والرفض، ولم تُحرق مثلاً أعلام الأمم المتحدة وصور بان كي مون. لم تمتلئ الشاشات بالخطباء المهتاجين أو بأولئك الذين يمضغون الكلام ويتحذلقون وهم يستنفرون الناس لمواجهة هذا التدخل الدولي الفظ في الشؤون الداخلية.
كانت الدلالات بسيطة وإن تعددت: ليس في لبنان من يمكن له أن يغفر أو يتساهل في جلاء الحقيقة حول تلك الجريمة، وبالتالي في محاسبة مَن خطّط وحرّض ونفّذ ذلك الاغتيال الذي سيكون لبنان مختلفاً عمّا بعده وبعد ما تلاه من اغتيالات سياسية.
وليس في لبنان مَن يقبل أن تمر هذه الجريمة المهولة من دون عقاب بمستواها، بغض النظر عن المزايدات والمناقصات وعمليات الاستثمار السياسي التي رافقت مسيرة النقاش حول المحكمة ، وكيف تعامل معها البعض كأنها فرصة قدرية للاستيلاء على السلطة، بينما استهان البعض الآخر بالضغوط الدولية التي جعلت من الجريمة مناسبة للاقتصاص من كل خصوم الإدارة الأميركية ليس في لبنان وحده بل في المنطقة عموماً… وبين أهداف هذه الإدارة المعلنة تأديب المقاومة على صمودها في الحرب الإسرائيلية على لبنان.
لعل مَن خرج من الحكومة قد أخطأ في تقديره لفرص استثمار هذا الخروج كأنه اعتراض على المحكمة وإحقاق الحق.
ولعل مَن رحّب بهذا الخروج قد رأى فيه فرصة نادرة لاحتكار السلطة، بدعم دولي عربي غير مسبوق، لا في لبنان ولا في أي مكان آخر في العالم، بحيث إن حماية حكومة بتراء في هذا البلد الصغير قد أصبحت الشغل الشاغل لعواصم القرار جميعاً من واشنطن ولندن وباريس وبرلين وروما وحتى موسكو إلى الرياض والقاهرة وعمّان وأبو ظبي والكويت… إلخ.
صارت المحكمة درعاً تحمي الحكومة البتراء من معارضيها ويمكن لها الاستمرار في ممارسة سلطة منقوصة الشرعية… ونافذة القرار!
مع ذلك كله، وبرغم الاعتراضات المبدئية وهي جوهرية، والاعتراضات السياسية، وهي مؤثرة جداً، والاعتراضات القانونية وهي وجيهة، فإن أحداً لم ينزل إلى الشارع، ولم يطلق تصريحاً حاداً ضد المحكمة التي انتهت مهلة الاعتراض عليها ولبنان مشروخ السلطة، مجتمعه منقسم، والمخاطر على كيانه ودولته، أي وحدته، جدية، ثم إنه ينزف جيشه في غياب الوحدة الوطنية القادرة على مواجهة هذا الإرهاب الذي كان الناس يعرفون عن جماعاته وتشكيلاته ويحذرون وينبّهون، لكن السلطة ظلت تتردد بين أمرين: أن تحاول توظيف بعضه لأغراضها السياسية، في ظل الانقسام السائد، أو أن تتصدى له بتحريض من الدول وبالاعتماد على نجداتها التي لم تصل في موعدها أو أن ما وصل لم يكن كافياً للحسم… ثم إن هذه المعركة قد هيّأت المناخ لمواجهات واشتباكات متعددة، في المستقبل، نظراً للتشققات الخطيرة في الجسم السياسي الفلسطيني في لبنان.
لقد اكتملت الدائرة وعدنا إلى نقطة البداية:
إن رفيق الحريري هو شهيد كل لبنان، موالاة ومعارضة وبين بين، وحتى مَن كان مختلفاً معه أو معارضاً له وهو حاكم، قد استشعر بالفجيعة لخسارته ومعها تعاظم إحساسه بالخطر على لبنان.
إذاً، فجوهر الخلاف في لبنان سياسي وبين اتجاهين محددين (على الأقل)، وحله سياسي، لا تنفع في حسمه قرارات مجلس الأمن جميعاً… بل لعل تلك القرارات بالظروف الدولية التي أملتها، قد زادت من تفاقم الخلاف الداخلي، هذا إذا لم نقل إن الخلاف كان بين استثماراتها المهمة.
المحكمة خلفنا الآن… والخلاف ما زال أمامنا.
وإذا كان التهديد بالمحكمة قد استُخدم، ذات يوم، كسلاح سياسي، فإن المحكمة ، ابتداءً من هذه اللحظة، قد أُخرجت من التداول.
لكن مشكلة لبنان، في ظل استمرار الخلاف السياسي، صارت أكثر قابلية للتفجّر…
هل من مجال لوقف الحروب الداخلية من أجل استنقاذ الوطن، قبل أن تذهب به الصراعات الدولية التي يعتقد بعض السذج أننا نحركها ونستطيع توظيفها في حين أنها تستعمل الجميع حتى تحين لحظة الصفقة فتستغني عنهم جميعاً بلا رحمة… وبلا تحقيق أو محكمة من أي نوع.
المحكمة خلفنا… أزمة الحكم أمامنا، وفوقنا ومن حولنا، فلنستعد لها بما يحمي لبنان، شعباً ودولة… ولو منهكة!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان