إيران دولة امبريالية تعتمد على الدعوة والأيديولوجيا أكثر من القسر والعسكر. هي دولة عظيمى، ولا تستحق لقب عظمى. عظيمى أكثر مما هي عظمى. لكن سيطرتها الخارجية تواجه متاعب. حتى سيطرتها على دول في المنطقة العربية أصبحت مهزوزة. يضاف إليها اهتزاز سيطرتها على شعبها. إعتبر هؤلاء الحكام أن عدة الشغل النووية كافية لإدخال دولتهم الى نادي النخبة النووية. تبين أن ذلك لم يعد كافياً.
لم تحسن إيران الرقص على أنغام “حقوق الإنسان”، “مكافحة الإرهاب”، “الحرب على المخدرات”، “تبييض الأموال”، “ليبرالية حرية الرأي” (حين يُمنع الرأي لا داعي لحرية الرأي إذ تصبح هذه لزوم ما لا يلزم)، اللهو، الغناء، الراب، مستلزمات الأمر من سكر وعربدة، وغيرها من متطلبات المجتمع المفتوح الذي تميل إليه النفس الإنسانية بالسليقة أكثر مما تميل الى نظام يُشدّد القبضة على سلوك مواطنيه حتى ولو كان في الأمر تكليف ديني يعتبر نفسه شرعياً. فشلت فشلاً ذريعاً في امتحان الدخول، والآن تعاني الرفض ممن كان يفترض أن يكون الدافع الديني المذهبي كافياً لتطويعهم وتجنيدهم في مشروع يشبه سيارة مصنوعة في مطلع القرن العشرين، للعرض من أجل التسويق في وكالة سيارات في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين. يقول الشاعر:
فقل للشامتين بنا أفيقوا/ سيلقى الشامتون كما لقينا
حاولت تركيا الانضمام الى نادي الدول الأوروبية، وتم رفضها بفجاجة، إذ أنها افتقدت عدة الشغل المطلوبة. فهي في الوقت الذي كانت تستجدي الموافقة على طلب الانضمام الى أوروبا، كانت تميل في الداخل الى احلال الدين مكان العلمانية، وتشديد القبضة على شعبها، وإن بنجاح أقل من إيران. لم ينفع هاتان الدولتان ادعاء محاربة الإرهاب ورفع راية الدين المعتدل لابتياع تذكرة دخول.
ظهور خصلة شعر من تحت حجاب المغفور لها مهسا أميني كان كافياً لاعتقالها ووضع حد لحياتها. وكان ذلك في الوقت عينه شرارة اشتعال ثورة لا يدري أحد كيف ستكون نهايتها. يتذكر الكثيرون البوعزيزي. لكي يشعل ثورة في تونس أشعل نفسه، بينما في إيران قتل النظام مهسا، وإن اختلف التقرير الطبي الإيراني عن سبب الموت، مع ما هو شائع لدى الشعب الإيراني وبقية العالم. لا أحد يدري إذا كان تخفيف القبضة في السعودية سوف يُنقذ النظام، ذلك أن التمنّع عن رفع إنتاج النفط من أجل خفض الأسعار يجعل العين محمرة. عين الامبريالية العظمى التي لا ترحم عندما يتعلّق الأمر بمصالحها القومية. وهي تعتقد جوراً وظلماً وعدواناً أن كل ما يجري على سطح الأرض يتعلّق بمصلحة قومية أميركية من نوع ما.
ما عاد أي نظام قادر على الحكم عن طريق دين موروث. دين العصر المعتمد لدى الامبريالية هو النيوليبرالية وعدة شغلها من “حقوق إنسان”. البشر الذين ترضى عنهم الامبريالية العظمى لا ينالون شيئاً من الحقوق، ولا حتى فتات المائدة الذي ينقذهم من هوة الفقر المدقع، والجوع، وسوء التغذية، إن لم تكن المجاعة. إيران دولة دعوية إضافة الى النيوليبرالية في هذا القرن. يزحف الناس، حتى الإيرانيون، الى النيوليبرالية ومآسيها الاجتماعية، ومظاهرها الفنية والثقافية، التي تلاقي قبولاً عند الناس حول العالم.
اعتمدت الثورة الإيرانية نشر الثورة على مدى نصف قرن علماً أنها حدثت واستلمت السلطة ولم تعد ثورة. لكن أصحابها يدعون أنهم في ثورة دائمة. يفهمون منها التعبئة الدائمة كي يبقى الجمهور مستنفراً، وكي تستخدم السلطة كل أدوات القمع المادي والايديولوجي، ليبقى الناس في القيود، مع برنامج اقتصادي-اجتماعي-نيوليبرالي. اختارت الدولة الإيرانية الصدام مع الغرب على أساس ثقافي. لم يكن ذلك في مصلحتها. لم يدرك القادة الإيرانيون أن جمهورهم، خاصة النساء والشباب الذين ولدوا بعد 1979، ولم يعودوا فتياناً، هو جمهور يُفضل الثقافة الغربية، لا صادرات الحوزات من الكتب والفتاوى المستنبطة منها. لا يعرف الملالي أن قيادة الناس هي في الشارع، أي الشباب والنساء، ولو كان الدين حاكماً. وبالتالي لا يعرف الملالي أنهم صاروا على هامش المجتمع ولو كانوا في السلطة يمارسون القمع بشتى أشكاله. ثورة النساء والفتيان أذنت بمرحلة جديدة طال انتظارها في إيران، وفي لبنان أظهرت فتيات فرقة “المياس” الأمر نفسه. وفي ذلك صراع على التراث. هو صراع ثقافي. ليس بيننا وبين الغرب بل بين الثقافة المعتبرة موروثة والثقافة التي خرجت من القمقم. ألا يستدعي الانتباه أن الحلاج يعود للظهور بعد ألف عام من اعدامه. وضعتموه في القبر فقام منه وظهر على أكبر مسارح العالم.
على أهل الثورة الإسلامية في إيران الخروج من اعتبار جسد المرأة عورة لا بدّ من إخفائه، وكذلك أجزاء أخرى عند الرجل. ولا ندري عند الفريقين الحدود بين العورة واللاعورة. الحدود بينهما تُقرر عشوائيا وبالقمع. يتوجب النظر الى المجتمع بعين أخرى، ببصيرة القرن الواحد والعشرين، حيث الجسد يفتق ثيابه ليكون أداة تعبير كانت محفوظة في مؤخرات البيوت للحفلات السرية أو الدعارة. تغيّر مفهوم الدعارة وصارت المرأة تعطي أهمية لجسدها كما يظهر، لا كما يُراد له الاختباء تحت قماشة سوداء، وتجهد النفس لإظهاره وإن بأشكال أكثر احتشاماً واعتبارا للنفس البشرية. أكثر مما ظن دعويو الثورة الإسلامية. ليست المرأة هامشاً اجتماعياً بل هي نصف المجتمع. وهي كانت في مخابئها السرية وغير السرية تتصوّر كي تثبت جدارتها التي أنكرها النظام عليها. حاولت ثورات التحرر الوطني تحرير الوطن، وربما أفلحت، لكنها لم تفعل شيئاً لتحرر المجتمع من النظام. ولا يتحرر إلا بانفلات الفرد والعمل حسب ضميره، لا حسب ما يملى عليه ولو كان تكليفاً شرعياً. الشرعية لا تكون إلا ما يريده الناس، لا ما يفرضه أصحاب العمائم، مستعينين بتكليف اخترعوه ونسبوه لله.
الامبريالية الإيرانية هي في جانب كبير منها دعوية. وهي قد سببت الكثير من عدم الاستقرار في دول مجاورة. أخطر ما فيها أنها اختارت المواجهة ثقافياً في عصر لم تعد تصلح فيه المواجهات الثقافية. القوة تنبع من المجتمع المنتج والمفتوح في آن معاً. الانغلاق الثقافي مصدر ضعف إن لم يكن عنصرية مضادة، بمحاولة الظهور والتصرّف على أننا غير العالم. نفرض على أنفسنا المغايرة دون الاندماج في العالم. المواجهة الثقافية تفرض علينا نوعاً من الدونية دون أن ندري. نحن جزء من العالم بارادتنا أو بالرغم عنا. الانعزال عن العالم عنصرية مضادة.. يُتبع.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق