لا يليق الحزن ببيروت، مدينة الفرح، المفتوحة على الرياح جميعاً، رياح الشرق حتى الصين مروراً بالقاهرة، بعد دمشق وحلب وبغداد حتى صنعاء، ورياح الغرب حتى واشنطن ونيويورك مروراً بباريس ولندن وأمستردام.
لا يليق الحزن ببيروت، فلقد ظلت والحريق يلتهم جنباتها مفتوحة الذراعين لاستقبال الأشقاء والأصدقاء الذين طالما اعتبروها كتابهم وصحيفة الصباح، فندقهم ومنتدى التلاقي بين الأحباب.
الكل يجد في بيروت ما يطلبه: الكنيسة والمسجد للمؤمنين، المقهى والملهى والأندية الليلية لمحبي السهر مع الطرب، والتباري مع الحظ، المطاعم محلية، بدوية، فرنسية، طليانية، صينية، يابانية وخراف مذبوحة مع اليمام أو السمك مع التبولة وكأس العرق.
الصحف بعدد هويات السياح الآتين والقراء المقيمين، بالعربية والفرنسية والإنكليزية – فضلاً عن الأرمنية، والنقاش مفتوح بلا نهاية، بالحجة والمنطق والصياح والغضب وبالمجادلة ولا من يحكم فيفصل. والمكتبات ودور النشر معالم لمدينة النور.
بيروت مدينة العالم، تزركشها اللغات المختلفة، العباءات والعيون اللامعة تحت الحجاب (وفوقه)، الأذرعة العادية حتى انكشاف الصدر، والألسنة طليقة بأنصاف اللغات وأرباعها، وبالهمهمة والإشارات إذا تعذرت الاستعانة بأكثر من لغة ولم يبلغ الصمت غالبيته..
بيروت تستقبلك مفلساً طالب عمل، وتستقبل أبناءك وبناتك للدراسة ومعها العمل، وتستقبل أهلك جميعاً، إذا رُميتم باضطهاد في بلادكم أو ضاقت بكم الأحوال لنقص المال أو الفرص.
إنها مدينة “الشعوب” جميعاً. “وطن” الناس على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم والأديان. يجيئها البدوي فيتمدن، ويجيئها الإفرنجي فيستعرب. إنها مدينة بألف لسان عدا الغمز واللمز وإنارة العيون أو إطفائها.
إنها أم الكل وليست أم أحد. إنها المدينة التي تفهمك قبل أن تنطق.
بيروت شيء من باريس وشيء من دمشق وشيء من القاهرة وبعض تونس والمغرب وبداوة موشاة بالسموكنغ.
بل أن بيروت ترطن بالروسية والصينية فضلاً عن لهجة الصعيد في مصر وتحفظ مواويل العشق في البادية.
بيروت مدينة الجامعات العشر والمئة معهد والمليون طالب وتلميذ وعشرات آلاف الأساتذة والمعلمات والمعلمين المجازين والمجازات من أرقى جامعات أوروبا وأميركا والقاهرة ضمناً وحتى دمشق وبغداد.
لكل هذه الأسباب صار للحريق في منطقة المرفأ والأحياء التي تحيط بها الجميزة ومار مخايل وبعض الأشرفية دوي دولي، فقد طالت ألسنة النار عواصم كثيرة ومتباعدة وثقافات بلا حصر..
في بيروت تسمع ما لا تقوله دمشق لأهلها وما تهمس به القاهرة من نافذة القطار المندفع إلى الصعيد وبعض أغاني المغرب وفراقيات أهل الرافدين والصحاري المحيطة بهم.. من دون أن ننسى الأميين.
لا همس في بيروت، فقرع الطبول المدوي بصرخاته الحزبية والسياسية يجبر العشاق على التنزه في ساحة البرج والمعرض وكورنيش المنارة من دون أن يلتفت إليهم أحد من الصارخين طلباً للتغيير.
بيروت نتف من عواصم كثيرة ومدن أخرى وقرى بعيدة وخيام قوافل الجمال والنوق والرعاة بمزاميرهم.. وفي الظل بدوي ينوح على ربابه سيرة الحب التي تمده بأسباب الحياة.